من دلائل توحيد الألوهية كمال الخالق ونقص المخلوق.
الأدلة العقلية النقلية على أصول الإسلام (٧)
من دلائل توحيد الألوهية كمال الخالق ونقص المخلوق.
2- كمال الخالق، ونقص المخلوق.
فالخالق سبحانه له من الصفات أكملها، وله المجد والحمد كله، والعظمة والقدرة كلها، وهو الخالق وحده، وبيده النفع والضر، والغيب عنده شهادة، ويسمع السر وأخفى، لا يعجزه شيء، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض، وإذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.
والآيات التي تدل على كمال الله تعالى كثيرة منها: آية الكرسي، وسورة الإخلاص، وكذلك الآيات التي تدل على ملكه وتدبيره وقوته إلخ...كثيرة جدا.
قال ابن تيمية: "والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص [يعني آيات الصفات] لمجرد تقرير صفات الكمال له بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه فأفاد الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد: وهما إثبات صفات الكمال ردا على أهل التعطيل وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو ردا على المشركين، والشرك في العالم أكثر من التعطيل" اهـ
وقد بين سبحانه وتعالى كثيرا حال ما يدعونهم ويعبدونهم من دونه بصفة تبين عدم استحقاقهم للعبادة، بأنهم عاجزون، وغير خالقين، ولا مالكين للنفع والضر، وأنه لا يستحق العبادة إلا المنفرد بصفات الكمال والجلال والعظمة وهو الله وحده.
ومن الأدلة على ذلك قوله تعالى: {فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ *أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ * وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ *وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ * إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأعراف]
وقوله: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا} [الفرقان]
وقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [الروم]
قال الطبري في تفسيره على آية الروم: "يقول تعالى ذكره: هل من آلهتكم وأوثانكم التي تجعلونهم لله في عبادتكم إياه شركاء من يفعل من ذلكم من شيء، فيخلق، أو يرزق، أو يميت، أو ينشر، وهذا من الله تقريع لهؤلاء المشركين. وإنما معنى الكلام أن شركاءهم لا تفعل شيئا من ذلك، فكيف يعبد من دون الله من لا يفعل شيئا من ذلك، ثم برأ نفسه تعالى ذكره عن الفرية التي افتراها هؤلاء المشركون عليه بزعمهم أن آلهتهم له شركاء، فقال جلّ ثناؤه ﴿سبحانه﴾ أي تنزيها لله وتبرئة ﴿وَتَعالى﴾ يقول: وعلوّا له ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يقول: عن شرك هؤلاء المشركين به" اهـ
وقال ابن القيم على آيتي سبأ: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ * وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ}
قال: "فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذ فلابد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عباده، أو شريكاً لمالكها أو ظهيراً أو وزيراً ومعاوناً له أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده، فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له، فيقول إلا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع، فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها، وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه!" اهـ
- ومن التنبيهات اللطيفة في نقص المخلوقين، ما ذكره سبحانه في قوله تعالى:
{مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [المائدة]
قال ابن القيم في الصواعق المرسلة: "وقد تضمنت هذه الحجة دليلين ببطلان إلهية المسيح وأمه:
أحدهما: حاجتهما إلى الطعام والشراب وضعف بنيتهما عن القيام بنفسهما بل هي محتاجة فيما يقيمها إلى الغذاء والشراب والمحتاج إلى غيره لا يكون إلها إذ من لوازم الإله أن يكون غنيا.
الثاني: أن الذي يأكل الطعام يكون منه ما يكون من الإنسان من الفضلات القذرة التي يستحي الإنسان من نفسه وغيره حال انفصالها عنه بل يستحي من التصريح بذكرها.
ولهذا والله أعلم كنى سبحانه عنها بلازمها من أكل الطعام الذي ينتقل الذهن منه إلى ما يلزمه من هذه الفضلة فكيف يليق بالرب سبحانه أن يتخذ صاحبة وولدا من هذا الجنس. ولو كان يليق به ذلك أو يمكن لكان الأولى به أن يكون من جنس لا يأكل ولا يشرب ولا يكون منه الفضلات المستقذرة التي يستحي منها ويرغب عن ذكرها.
فانظر ما تضمنه هذا الكلام الوجيز البليغ المشتمل على هذا المعنى العظيم الجليل الذي لا يجد سامعه مغمزا له ولا مطعنا فيه ولا تشكيكا ولا سؤالا يورده عليه بل يأخذ بقلبه وسمعه" اهـ
وقال السعدي في تفسيره: "ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك: ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه، بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها، وسلبها الأسماع والأبصار، وأنها على فرض سماعها لا تغني شيئا، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص، وما أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة، والقدرة والقهر، وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية، فمن عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له الكمال كله، والمجد كله، والحمد كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها، لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون" اهـ
- وأخيرا فما أجمل ما قاله ابن القيم في الصواعق المرسلة، قال:
"ومن ذلك قوله تعالى {هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} [لقمان] فلله ما أحلى هذا اللفظ وأوجزه وأدله على بطلان الشرك فإنهم إن زعموا أن آلهتهم خلقت شيئا مع الله طولبوا بأن يروه إياه وإن اعترفوا بأنها أعجز وأضعف واقل من ذلك كانت آلهيتها باطلا ومحالا.
ومن ذلك قوله تعالى { قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أم لهم شرك في السماوات ائتوني بكتاب من قبل هذا أو أثارة من علم إن كنتم صادقين ( ٤ ) } [الأحقاف]
فطالبهم بالدليل العقلي والسمعي.
وقال تعالى { قل من رب السماوات والأرض قل الله قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم قل الله خالق كل شيء وهو الواحد القهار ( ١٦ ) } [الرعد] فاحتج على تفرده بالإلهية بتفرده بالخلق وعلى بطلان إلهية ما سواه بعجزهم عن الخلق وعلى أنه واحد بأنه قهار والقهر التام يستلزم الوحدة فإن الشركة تنافي تمام القهر.
وقال تعالى { يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون الله لن يخلقوا ذبابا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب ( ٧٣ ) } [الحج]
فتأمل هذا المثل الذي أمر الناس كلهم باستماعه فمن لم يستمعه فقد عصى أمره كيف تضمن إبطال الشرك وأسبابه بأصح برهان في أوجز عبارة وأحسنها وأحلاها وأسجل على جميع آلهة المشركين أنهم لو اجتمعوا كلهم في صعيد واحد وساعد بعضهم بعضا وعاونه بأبلغ المعاونة لعجزوا عن خلق ذباب واحد ثم بين ضعفهم وعجزهم عن استنقاذ ما يسلبهم الذباب إياه حين يسقط عليهم فأي إله أضعف من هذا الإله المطلوب ومن عابده الطالب نفعه وخيره فهل قدر القوي العزيز حق قدره من أشرك معه آلهة هذا شأنها.
فأقام سبحانه حجة التوحيد وبين إفك أهل الشرك والإلحاد بأعذب ألفاظ وأحسنها لم يستكرهها غموض ولم يشنها تطويل ولم يعبها تقصير ولم تزر بها زيادة ولا نقص بل بلغت في الحسن والفصاحة والبيان والإيجاز مالا يتوهم متوهم ولا يظن ظان أن يكون أبلغ في معناها منها وتحتها من المعنى الجليل القدر العظيم الشرف البالغ في النفع ما هو أجل من الألفاظ" اهـ
فمن عرف المخلوق على حقيقته، وعرف الخالق في عظمته، عرف التوحيد وشأن مكانته.
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق