المعية والرد على الجهمية.

 القول في المعية والرد على الجهمية في قولهم إن الله في كل مكان.

قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٧ )  } [سورة المجادلة] 

وقال تعالى: { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ( ٤ )  } [سورة الحديد]

وقال: { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ( ١٢٨ )  } [سورة النحل]

وقال: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ( ١٥٣ )  } [سورة البقرة]


ومعية الله لنا حقيقية ولكن لا تعني أنه معنا بذاته مختلطا بخلقه، بل هو فوق سمواته مستو على عرشه بائن من خلقه وهو معنا حقيقة بعلمه وسلطانه وقدرته وإحاطته.


"فلا تعارض بين نصوص العلو ونصوص المعية، فنصوص العلو تثبت الفوقية وتنفي السفول والتحتية، وهو يتعلق بالذات، ونصوص المعية تثبت الإحاطة والعلم وتنفي الغياب والجهل، وهي تتعلق بالعلم والشهود والإعانة ، والخلط بين المعية والعلو جعل المبتدعة تقول إن الله في كل مكان بذاته، فنفوا العلو الذاتي وأثبتوا المعية الذاتية" انظر الخراسانية للطريفي.


قال ابن تيمية في الواسطية:

"وليس معنى قوله وهو معكم أنه مختلط بالخلق، فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته وهو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق عرشه رقيب على خلقه مهيمن عليهم مطلع عليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته. وكل هذا الكلام الذي ذكره الله - من أنه فوق العرش وأنه معنا - حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف. ولكن يصان عن الظنون الكاذبة "اهـ


صح عن الإمام مالك أنه قال:

"الله عز وجل في السماء، وعلمه في كل مكان" وتلا هذه الآية {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ}" اهـ

وقال المروزي: "قلت لأبي عبد الله أحمد بن حنبل، إن رجلا قال: أقول كما قال الله {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} ، أقول هذا ولا أجاوزه إلى غيره. فقال أبو عبد الله: "هذا كلام الجهمية". قلت: فكيف نقول؟ قال: {مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ} علمه في كل مكان وعلمه معهم" ثم قال: "أول الآية يدل على أنه علمه" اهـ

وقال ابن جرير الطبري: “وهو شاهد لكم -أيها الناس- أينما كنتم يعلمكم، ويعلم أعمالكم، ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سمواته السبع”اهـ

وقال أبو زيد القيرواني 386هـ في رسالته:

 "وأنه فوق عرشه المجيد بذاته، وأنه في كل مكان بعلمه" اهـ

وقال أبو نصر السجزي، (444هـ)في كتاب "الإبانة": "وأئمتنا الثوري، ومالك، وابن عيينة، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وابن المبارك، وفضيل بن عياض، وأحمد، وإسحاق، متفقون على أن الله فوق عرشه بذاته، وأن علمه بكل مكان"اهـ

وقال ابن عبد البر المالكي في التمهيد:

وأما احتجاجهم بقوله "ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا" فلا حجة لهم في ظاهر هذه الآية لأن علماء الصحابة والتابعين الذين حملت عنهم التأويل في القرآن قالوا في تأويل هذه الآية هو على العرش وعلمه في كل مكان وما خالفهم في ذلك أحد يحتج بقوله" اهـ


وقد أجمع السلف على تفسير المعية هنا بالعلم، كما حكاه هنا ابن عبد البر  وكذلك حكاه ابن أبي شيبة، وابن بطة، وأبو عمرو الطلمنكي، وغيرهم رحمهم الله.


- وذلك لأن كلمة(مع) لا يلزم منها المخالطة.

قال ابن القيم كما في مختصر الصواعق المرسلة: 

"إنه ليس ظاهر اللفظ ولا حقيقته أنه سبحانه مختلط بالمخلوقات ممتزج بها، ولا تدل لفظة (مع) على هذا بوجه من الوجوه فضلا أن يكون هو حقيقة اللفظ وموضوعه، فإن (مع) في كلامهم لصحبته اللائقة وهي تختلف باختلاف متعلقاتها ومصحوبها، فكون نفس الإنسان معه لون، وكون علمه وقدرته وقوته معه لون، وكون زوجته معه لون، وكون أميره ورئيسه معه لون، وكون ماله معه لون، فالمعية ثابتة في هذا كله مع تنوعها واختلافها، فيصح أن يقال: زوجته معه وبينهما شقة بعيدة وكذلك يقال مع فلان دار كذا وضيعته كذا، فتأمل نصوص المعية في القرآن كقوله تعالى: ﴿محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار﴾ [الفتح ٢٩] وقوله: ﴿ينادونهم ألم نكن معكم﴾ [الحديد ١٤] وقوله: ﴿لن تخرجوا معي أبدا ولن تقاتلوا معي عدوا﴾ [التوبة ٨٣] وقوله: ﴿وكونوا مع الصادقين﴾ [التوبة ١١٩] ﴿واركعوا مع الراكعين﴾ [البقرة ٤٣] ﴿فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه﴾ [البقرة ٢٤٩] ﴿والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم﴾ [التحريم ٨] ﴿فاكتبنا مع الشاهدين﴾ [آل عمران ٥٣] ﴿فلتقم طائفة منهم معك﴾ [النساء ١٠٢] ﴿ونطمع أن يدخلنا ربنا مع القوم الصالحين﴾ [المائدة ٨٤] وأضعاف ذلك، هل يقتضي موضع واحد منها مخالطة في الذوات التصاقا وامتزاجا، فكيف تكون حقيقة المعية في حق الرب تعالى ذلك حتى يدعى أنها مجاز لا حقيقة، فليس في ذلك ما يدل على أن ذاته تعالى فيهم ولا ملاصقة لهم، ولا مخالطة ولا مجاورة بوجه من الوجوه، وغاية ما تدل عليه (مع) المصاحبة والموافقة والمقارنة في أمر من الأمور، وذا الاقتران في كل موضع بحسبه يلزمه لوازم بحسب متعلقه" اهـ

وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: "ذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله تعالى: ﴿هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير﴾. فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي ﷺ في حديث الأوعال: ﴿والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه﴾. وذلك أن كلمة (مع في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة؛ من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال؛ فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى. فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا. ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك؛ وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة-إلى أن قال- ففرق بين معنى المعية وبين مقتضاها؛ وربما صار مقتضاها من معناها. فيختلف باختلاف المواضع. فلفظ «المعية» قد استعمل في الكتاب والسنة في مواضع يقتضي في كل موضع أمورا لا يقتضيها في الموضع الآخر؛ فإما أن تختلف دلالتها بحسب المواضع أو تدل على قدر مشترك بين جميع مواردها - وإن امتاز كل موضع بخاصية - فعلى التقديرين ليس مقتضاها أن تكون ذات الرب عز وجل مختلطة بالخلق حتى يقال قد صرفت عن ظاهرها." اهـ


-وبهذا يتبين أن تفسيرالمعية  بالعلم من ظاهر النص وليس تأويلا له

 قال ابن عثيمين رحمه الله عن آية الحديد والمجادلة:

 "لا ريب أن السلف فسروا معية الله تعالى لخلقه في الآيتين بالعلم، وحكى بعض أهل العلم إجماع السلف عليه .

وهم بذلك لم يؤولوها تأويل أهل التعطيل، ولم يصرفوا الكلام عن ظاهره، وذلك من وجوه ثلاثة:

الأول: أن الله تعالى ذكرها [يعني : المعية] في سورة المجادلة بين عِلْمين، فقال في أول الآية: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) ، وقال في آخرها: (إنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) ؛ فدل ذلك على أن المراد أنه يعلمهم ولا يخفى عليه شيء من أحوالهم.

الثاني: أن الله تعالى ذكرها في سورة الحديد مقرونة باستوائه على عرشه الذي هو أعلى المخلوقات، فقال: (هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ) إلى قوله: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ) ؛ فدل على أن المراد معية الإحاطة بهم ، علما وبصرا، لا أنه معهم بذاته في كل مكان، وإلا لكان أول الآية وآخرها متناقضا.

الثالث: أن العلم من لوازم المعية، ولازم اللفظ من معناه ، فإن دلالة اللفظ على معناه من وجوه ثلاثة: دلالة مطابقة، ودلالة تضمن، ودلالة التزام ، ولهذا يمكن أن نقول: هو سبحانه معنا بالعلم، والسمع، والبصر، والتدبير والسلطان وغير ذلك من معاني ربوبيته ، كما قال تعالى لموسى وهارون: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى) ، وقال هنا في سورة الحديد: (وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ).

فإذا كان العلم من لوازم المعية : صح أن نفسرها به ، وبغيره من اللوازم التي لا تنافي ما ثبت لله تعالى من صفات الكمال، ولا يعد ذلك خروجا بالكلام عن ظاهره" انتهى من "مجموع فتاوى ورسائل العثيمين" اهـ


- والمعية نوعان:

١- معية عامة: وهي لجميع الخلق مؤمنهم وكافرهم وتكون بالعلم والسلطان والقدرة. كقوله: "وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ"

قال ابن كثير في تفسير اية المجادلة

"ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علم الله تعالى ولا شك في إرادة ذلك ولكن سمعه أيضا مع علمه محيط بهم، وبصره نافذ فيهم، فهو، سبحانه، مطلع على خلقه، لا يغيب عنه من أمورهم شيء."اهـ

٢- معية خاصة: وهي لخواص خلقه، لأهل الإيمان والطاعة ، وكلما زادت الطاعة زادت هذه المعية وتكون بالنصر والتأييد والحفظ.كقوله:  "إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ"

قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: 

"ثم هذه (المعية) تختلف أحكامها بحسب الموارد فلما قال: ﴿يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها﴾ إلى قوله: ﴿وهو معكم أين ما كنتم﴾. دل ظاهر الخطاب على أن حكم هذه المعية ومقتضاها أنه مطلع عليكم؛ شهيد عليكم ومهيمن عالم بكم. وهذا معنى قول السلف: إنه معهم بعلمه وهذا ظاهر الخطاب وحقيقته.

وكذلك في قوله: ﴿ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم﴾ إلى قوله: ﴿هو معهم أين ما كانوا﴾ الآية. ولما قال النبي ﷺ لصاحبه في الغار: ﴿لا تحزن إن الله معنا﴾ كان هذا أيضا حقا على ظاهره ودلت الحال على أن حكم هذه المعية هنا معية الاطلاع والنصر والتأييد. وكذلك قوله تعالى ﴿إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون﴾ وكذلك قوله لموسى وهارون: ﴿إنني معكما أسمع وأرى﴾. هنا المعية على ظاهرها وحكمها في هذه المواطن النصر والتأييد." اهـ

والحمد لله رب العالمين


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دليل الخلق والإيجاد

محالات العقول ومحاراتها

مقدمة جواب شبهة التوسل(١)

وجود الأدلة العقلية في الأدلة النقلية

جواب شبهة التوسل النقلية(٢)