مقدمة جواب شبهة التوسل(١)




السرية على الشبهات الشركية.(٤)

بسم الله الرحمن الرحيم...

تحدثنا في المنشورين السابقين عن معنى الألوهية وأنه غير توحيد الربوبية، وأن الدعاء عبادة من أجلّ العبادات.

ومن خلال هذين التأصيلين كان الرد على أشهر شبهاتهم، وقطب رحاها، والتي هي في مجملها قولهم عدم وجود فرق بين توحيد الألوهية وتوحيد الربوبية وأنه لا شرك في الدعاء إلا باعتقاد بعض صفات الربوبية في المخلوق المدعو، ويتبين بطلان هذه الشبهة -بأذن الله- بتفهم المنشورين السابقين.

• وأما منشورنا هذا فسيكون الرد فيه على شبهة التوسل التي جوزوا بها الاستغاثة الشركية، حيث قالوا ورد التوسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في بعض الآثار، وعليه بنى بعض العلماء جواز التوسل بذات النبي صلى الله عليه وسلم وجاهه حيا وميتا، إذن فيجوز الاستغاثة بالأموات فمن ينكر الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم أو غيره حيا وميتا فهو مصادم للأحاديث وأقوال العلماء في جواز التوسل.

فانظروا كيف بناء هذه الشبهة الركيكة، فلا وجود لرابط بين المقدمة والنتيجة كما سيتبين إن شاء الله إذا فصلنا في أنواع التوسل.

فنقول التوسل إجمالا ينقسم إلى ثلاثة أقسام: -

1-  التوسل المشروع: وهو جائز بالإجماع ويعود في مجمله إلى ثلاثة أنواع:

-التوسل إلى الله بأسمائه وصفاته ودليله قول الله تعالى:{ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}  [سورة الأعراف:180].

مثاله يا غافر الذنب اغفر لي، تب عليَّ إنك أنت التواب الرحيم، ارزقني يا رزاق، وهكذا تتوسل إلى الله بما يناسب مطلوبك من الأسماء والصفات والآثار في ذلك كثيرة.

- التوسل إلى الله بالأعمال الصالحة كما في حديث الذين أغلق عليهم الغار ودعوا الله بصالح أعمالهم ففرج الله عنهم والحديث متفق عليه، وكذلك يدل عليه ما ذكره الله في القرآن من دعاء الصالحين فقال تعالى عنهم: { الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ( ١٦ )  } [سورة آل عمران]

 فتوسلوا إلى الله بإيمانهم لمغفرة ذنوبهم والنجاة من النار.

ومنه التوسل إلى الله بمحبة الأنبياء والصالحين لأن هذا من أعمالك الصالحة التي تتوسل إلى الله بها فتقول مثلا اللهم إني أحبهم فيك فاجمعني معهم في جنتك وهكذا والآثار في مشروعية هذا النوع كثيرة.

- التوسل إلى الله بطلب الدعاء والاستغفار من الصالحين في حياتهم وحضورهم أو التوجه إلى الله بدعائهم  لك كما سيأتي في حديث الأعمى، ويدل عليه قول الله تعالى: { قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ ( ٩٧ )  } [سورة يوسف]

وكذلك حديث أنس بن مالك في استسقاء الاعرابي النبي صلى الله عليه وسلم-وفيه- ((فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب على المنبر يوم الجمعة قام أعرابي فقال يا رسول الله هلك المال وجاع العيال فادع الله لنا أن يسقينا قال فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه وما في السماء قزعة قال فثار سحاب أمثال الجبال ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيت المطر يتحادر على لحيته)) الحديث متفق عليه، وكذلك فيه توسل عمر بدعاء العباس رضي الله عنه في عام المجاعة فعن أنس قال: ((أن عمر بن الخطاب رضى الله تعالى عنه كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبد المطلب فقال اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا قال فيسقون)) رواه البخاري، والتوسل هنا هو بدعاء العباس كما كانوا يتوسلون بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم أي دعا عمر ربه وتوسل إليه بدعاء العباس الذي سيستسقي لهم بالدعاء، وكذلك فيه حديث الأعمى الذي رواه عثمان بن حنيف قال أن رجلا ضرير البصر أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال ((ادع الله أن يعافيني قال إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك قال فادعه قال فأمره أن يتوضأ فيحسن وضوءه ويدعو بهذا الدعاء اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في)) رواه الترمذي وقال هذا حديث حسن صحيح غريب  ففيه أنه طلب من النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يدعو بدعاء معين وهو(اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة إني توجهت بك إلى ربي في حاجتي هذه لتقضى لي اللهم فشفعه في) وهو يدل أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمره بهذا الدعاء الذي فيه التوجه إلى ربه بدعاء النبي الذي وعده بأن يدعو له كما جاء في نفس الحديث (إن شئت دعوت وإن شئت صبرت فهو خير لك قال فادعه) فاختار الأعمى الدعاء  فدعا صلى الله عليه وسلم له، وتعليمه الأعمى بأن يقول(اللهم فشفعه في) أي أقبل شفاعة نبيك لي الذي هو دعاؤه في أن ترد علي بصري لأن الشفاعة كلام الشفيع للملك في حاجة يسألها لغيره، لا أنه توجه بذات النبي وجاهه ولو كان قصد الأعمى الجاه والذات  لما كان له حاجة بأن يأتي النبي صلى الله عليه وسلم ويسأله، بل يسأل بجاهه وذاته من أي مكان.

2-  التوسل البدعي: وهو التوسل إلى الله بسبب غير مشروع كالتوسل بذات الأنبياء أو الصالحين كقولهم اللهم إني أسألك بنبيك محمد أن تغفر لي، أو بجاههم ومنزلتهم عند الله كقولهم اللهم إني أسألك بجاه نبيك أن تغفر لي، أو بالإقسام بهم على الله كقولهم اللهم إني أقسم عليك بنبيك أن تغفر لي، أو بفعل الطاعات ودعاء الله عند قبورهم.

وهذا النوع من التوسل هو بدعي عند جمهور أهل العلم وأئمتهم، وذهب كثير من المتأخرين وقلة من الأولين إلى جوازه بما اشتبه عليهم من حديثي الأعمى وتوسل عمر بالعباس فظنوه توسل بالذات والجاه لا بدعائهم.

والأمر في هذا قريب فمهما بلغت فهي في الأخير بدعة غير مخرجة من الإسلام، وأصحابها من أهل التوحيد فلم يدعوا أحدا مع الله، ولكنهم دعوا الله بطريقة غير مشروعة، وشبهة المشركين ليست هنا وإنما يجعلون هذا القسم سلّما لتجويز شركهم كما سيتضح بإذن الله، ولأهمية موضوع الشرك عن البدعة نرجي تحرير مسألة التوسل البدعي بين الجواز والتحريم إلى منشور مستقل بإذن الله لأنه على كلا القولين بجوازه أو تحريمه لا حجة فيه على جواز الاستغاثة بغير الله كما سيتبين إن شاء الله.

3-  التوسل الشركي: وهو التقرب إلى الله بعبادة غير الله معه، ومن ذلك دعاء الأنبياء والصالحين وطلب الغوث منهم والمدد وغيره، كقولهم المدد يا رسول الله، أغثنا يا حسين، نحن في جوارك يا بدوي وهكذا مع اختلاف عباداتهم ومعبوداتهم ولكن يجمعهم صرف العبادة مهما كانت لغير الله مهما كانوا، وقد سبق في المنشور الماضي بيان أن الدعاء عبادة من أجل العبادات التي صرفها لله وحده توحيد، وصرفها لغيره من الإشراك به سبحانه وتعالى عما يشركون، وقد حكى الله هذا النوع من التوسل عن المشركين فقال:{ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ ( ٣ )  } [سورة الزمر] فجعل توسلهم الشركي هذا من الكذب على الله وسماهم به كافرين، وقال في سورة يونس: { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ١٨ )}

فجعل توسلهم الشركي من مجرد اختراعاتهم، فلذا ذكر أنه لا يعلم لنفسه شريكا في العبادة يجوز دعاؤه معه، وسمى فعلهم شركا ونزه نفسه عنه سبحانه.

وهذا من الأدلة المحكمة في بطلان التوسل الشركي، ولكن القوم من متأخري الصوفية والرافضة ومن نحا نحوهما في أبصارهم غشاوة وفي قلوبهم أكنة وفي أسماعهم وقرا من أدلة التوحيد وبطلان الشرك.


• فانظروا كيف بنوا شبهتهم:

 ذهبوا إلى القسم الأول من أقسام التوسل وهو المشروع، ومنه طلب الدعاء من الولي الحي الحاضر، ثم قالوا هناك من أهل العلم المعروفين من قالوا بجواز التوسل بذوات الأنبياء وجاههم في حياتهم ومما تهم، إذن يجوز دعاء الأنبياء والصالحين والاستغاثة بهم فانظر واعجب كيف ربطوا بين الدليل والنتيجة ولا رابط بينهما إلا الهوى، ولا قائل به أحد من السلف.

فقسمي التوسل المشروع والممنوع لا شرك فيه وإنما دعاء الله وحده ولكن في القسم الأول بسبب مشروع وفي القسم الثاني بسبب غير مشروع.

وأما القسم الثالث ففيه دعاء غير الله معه، فكيف يستدلون بالتوحيد على جواز الشرك.

فهؤلاء القوم قد أعمى الله أبصارهم فخلطوا بين أنواع التوسل فاستدلوا بالمشروع والبدعي على الشركي، ومن أنكر عليهم الشركي قالوا له إنكم تنكرون التوسل الشرعي الثابت بإجماع أهل العلم وأنكم تكفرون كل من توسل ولا يفرقون بين المشروع والبدعي والشركي، ومما يبين ذلك بعض أقوال مشايخهم وأكتفي بأحدها لشهرتها عنهم.

قال القباني في فصل الخطاب: "جواز التوسل والتشفع والاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وبغيره من الأنبياء والأولياء... ولا فرق في ذلك بين التعبير بالتوسل، أو التشفع، أو التوجه به صلى الله عليه وسلم في الحاجة" اهـ

ونحن نقول يجوز التوسل بالطريقة المشروعة التي ثبتت بالأدلة، وأن التوسل البدعي محرم لا يجوز ولكنه ليس بشرك ولا من نواقض الإسلام، وأن من فعله متأولا جوازه-أعني البدعي- فهو مغفورا له بإذن الله، وأما التوسل الشركي فهو دعاء لغير الله ففيه صرف العبادة لغير الخالق، فمن فعله فقد خرج من التوحيد إلى الشرك، والشرك أظلم الظلم و{ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا ( ٤٨ )  } [سورة النساء]

فهناك فرق بين نوعي التوسل الممنوع -البدعي والشركي-، ففرق بين التوسل بذوات الصالحين، وبين دعاؤهم والاستغاثة بهم أمواتا أو فيما لا يقدر عليه إلا الله أحياءً

ففرق بين النوعين فالمستغيث بالشيء طالب منه وسائل له، والمتوسل به لا يدعوه ولا يطلب منه ولا يسأله وإنما يطلب الله به، فالفرق واضح بين المدعو المستغاث وبين المدعو به، فما جاء عن بعض أهل العلم والصلاح هو التوسل البدعي كقولهم اللهم أتوسل إليك بنبيك أو ملائكتك أو بحق فلان أو جاهه ونحوه من العبارات ولم يرد عن أحد منهم -من المتقدمين في القرون المفضلة وما بعدها- التوسل الشركي كالاستغاثة بالأموات والغائبين وطلب المدد منهم كقول يا رسول الله أغثني أو المدد يا حسين وإنما هذا تجده عند المتأخرين.

- قال الزجاج في معاني القرآن في الفرق بين التوسل المشروع والشركي على آية سورة يونس: "فالفرق بين المتوسلين إلى اللَّه بمحبَّةِ أنبيائه وملائكته وصالحي عبادِه أنهم يتوسلون بهم مُوحِّدين اللَّهَ عزَّ وجلَّ، لا يجعلون له شريكاً في العبادة، والكفار يتوَسلُونَ بعبادة غير اللَّه، فجعلوا الكفر وسيلَتَهُمْ". اهـ

وبنحوه قال النحاس في إعراب القرآن على آية الوسيلة في سورة الإسراء.


• فمن تصور هذه المسألة علم أن لا حجة فيها على جواز الاستغاثة بالأموات والغائبين، بل بها تقوم الحجة على أن دعاء غير الله شرك وعبادة لغيره سبحانه وتعالى عما يشركون.


ولكن لا زال للقوم بعض الشبه يدلونها على مسألة التوسل سنجيب عنها بإذن الله في المنشور القادم لئلا يطول هذا المنشور.

وإنما هذا  المنشور كان لتصور المسألة، وكيفية بناء شبهتهم الهزيلة، وإيضاح أن لا ترابط بين استدلالهم وما يريدون الوصول إليه من تجويز الاستغاثة الشركية ونحوها من العبادات.

والحمد لله رب العالمين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دليل الخلق والإيجاد

محالات العقول ومحاراتها

وجود الأدلة العقلية في الأدلة النقلية

جواب شبهة التوسل النقلية(٢)