الحميد
الحمد لله المحمود بكل لسان وعلى كل حال... أما بعد
فمن أسماء الله الحسنى الحميد(٩)
وقد ورد في القرآن في سبع عشرة موضع منها في قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ١٥ ) } [فاطر]
وقوله: { وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ ( ٨ ) } [البروج]
وورد في الصلاة الإبراهيمية المشهورة في السنة النبوية.
• معناه اللغوي:
الحمد نقيض الذم، وأعم من الشكر وأخص من المدح.
والحميد من أبنية المبالغة، على وزن فعيل في معنى مفعول أي محمود، وأكثر ما يأتي هذا الوزن فعيل في أسماء الله الحسنى بمعنى فاعل، ولكن في الحميد لم يأت إلا بمعنى مفعول.
قال ابن القيم في بدائع الفوائد:
" فالصواب في الفرق بين الحمد والمدح أن يقال: الإخبار عن محاسن الغير إما أن يكون إخبارا مجردا من حب وإرادة أو مقرونا بحبه وإرادته فإن كان الأول فهو المدح وإن كان الثاني فهو الحمد فالحمد إخبار عن محاسن المحمود مع حبه وإجلاله وتعظيمه ولهذا كان خبرا يتضمن الإنشاء بخلاف المدح فإنه خبر مجرد" اهـ
وقال ابن القيم في جلاء الأفهام:
"وأما (الحميد) فلم يأت إلا بمعنى المحمود، وهو أبلغ من المحمود، فإن فعيلاً إذا عُدِلَ به عن مفعول: دلَّ على أن تلك الصفة قد صارت مثل السجيَّة والغريزة والخُلُق اللازم، كما إذا قلت: فلانٌ ظريفٌ وشريفٌ وكريمٌ، ولهذا يكون هذا البناء غالبًا من فَعُلَ بوزن شَرُفَ، وهذا البناء من أبنية الغرائز والسجايا اللازمة، ككَبُرَ وصغر، وحسن ولطُفَ ونحو ذلك.
ولهذا كان حبيبٌ أبلغ من محبوب، لأن الحبيب الذي حصلت فيه الصفات والأفعال التي يحب لأجلها، فهو حبيب في نفسه؛ وإن قدر أن غيره لا يحبه؛ لعدم شعوره به، أو لمانع منعه من حبه، وأما المحبوب فهو الذي تعلق به حبُّ المُحبِّ؛ فصار محبوبًا بحبِّ الغير له، وأما الحبيب فهو حبيبٌ بذاته وصفاته، تعلَّق به حبُّ الغير أو لم يتعلَّق.
وهكذا الحميد والمحمود، فالحميد: هو الذي له من الصفات، وأسباب الحمد ما يقتضي أن يكون محمودًا؛ وإن لم يحمده غيره، فهو حميدٌ في نفسه، والمحمود من تعلَّق به حمد الحامدين"اهـ
• معناه في حق الله:
قال الزجاج في تفسير أسماء الله الحسنى:
"الحميد هو فعيل في معنى مفعول والله تعالى هو المحمود بكل لسان وعلى كل حال كما يقال في الدعاء الحمد لله الذي لا يحمد على الأحوال كلها سواه"اهـ
وقال الخطابي في شأن الدعاء:
" الحميد: هو المحمود الذي استحق الحمد بفعاله، وهو فعيل بمعنى مفعول، وهو الذي يحمد في السراء والضراء، وفي الشدة والرخاء، لأنه حكيم لا يجري في أفعاله الغلط، ولا يعترضه الخطأ؛ فهو محمود على كل حال".اهـ
وقال ابن كثير رحمه الله تعالى: "وهو (الحميد) أي: المحمود في جميع أفعاله وأقواله، وشرعه وقدره لا إله إلا هو ولا رب سواه"اهـ
وقال الزجاجي في اشتقاق أسماء الله:
"الحميد: المحمود ذو الحمد المستحق لذلك" اهـ
قال ابن القيم في النونية:
وَهُوَ الحميد فَكل حمد وَاقع ... أَو كَانَ مَفْرُوضًا مدى الْأَزْمَانِ
مَلأ الْوُجُود جمعيه وَنَظِيره ... من غير مَا عدا وَلَا حسبانِ
هُوَ أَهله سُبْحَانَهُ وَبِحَمْدِهِ ... كل المحامد وصف ذِي الاحسانِ
قال السعدي في شرحها في الحق الواضح المبين:
"وهو سبحانه حميد من وجهين:
أحدهما: أن جميع المخلوقات ناطقة بحمده، فكل حمد وقع من أهل السماوات والأرض الأولين منهم والآخرين، وكل حمد يقع منهم في الدنيا والآخرة، وكل حمد لم يقع منهم، بل كان مفروضًا ومقدرًا حينما تسلسلت الأزمان، واتصلت الأوقات حمدًا يملأ الوجود كله، العالم العلوي والسفلي، ويملأ نظير الوجود من غير عد ولا إحصاء، فإن الله مستحقه من وجوه كثيرة منها: أن الله هو الذي خلقهم، ورزقهم، وأسدى عليهم النعم الظاهرة، والباطنة الدينية، والدنيوية، وصرف عنهم النقم، والمكاره، فما بالعباد من نعمة فمن الله، ولا يدفع الشرور إلا هو، فيستحق منهم أن يحمدوه في جميع الأوقات، وأن يثنوا عليه، ويشكروه بعدد اللحظات.
الوجه الثاني: أنه يحمد على ما له من الأسماء الحسنى، والصفات الكاملة العليا، والمدائح والمحامد والنعوت الجليلة الجميلة، فله كل صفة كمال، وله من تلك الصفة أكملها وأعظمها، فكل صفة من صفاته يستحق عليها أكمل الحمد والثناء، فكيف بجميع الأوصاف المقدسة، فله الحمد لذاته، وله الحمد لصفاته، وله الحمد لأفعاله، لأنها دائرة بين أفعال الفضل، والإحسان، وبين أفعال العدل، والحكمة التي يستحق عليها كمال الحمد، وله الحمد على خلقه، وعلى شرعه، وعلى أحكامه القدرية وأحكامه الشرعية، وأحكام الجزاء في الأولى، والآخرة، وتفاصيل حمده، وما يحمد عليه لا تحيط بها الأفكار، ولا تحصيها الأقلام"اهـ
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى:
"والحمد نوعان: حمد على إحسانه إلى عباده. وهو من الشكر؛ وحمد لما يستحقه هو بنفسه من نعوت كماله وهذا الحمد لا يكون إلا على ما هو في نفسه مستحق للحمد وإنما يستحق ذلك من هو متصف بصفات الكمال وهي أمور وجودية فإن الأمور العدمية المحضة لا حمد فيها ولا خير ولا كمال. ومعلوم أن كل ما يحمد فإنما يحمد على ما له من صفات الكمال فكل ما يحمد به الخلق فهو من الخالق والذي منه ما يحمد عليه هو أحق بالحمد فثبت أنه المستحق للمحامد الكاملة وهو أحق من كل محمود بالحمد والكمال من كل كامل وهو المطلوب."اهـ
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين:
"الحمد كله لله رب العالمين فإنه المحمود على ما خلقه وأمر به ونهى عنه فهو المحمود على طاعات العباد ومعاصيهم وإيمانهم وكفرهم وهو المحمود على خلق الأبرار والفجار والملائكة والشياطين وعلى خلق الرسل وأعدائهم وهو المحمود على عدله في أعدائه كما هو المحمود على فضله وإنعامه على أوليائه فكل ذرة من ذرات الكون شاهدة بحمده ولهذا سبح بحمده السموات السبع الأرض ومن فيهن وإن من شيء إلا يسبح بحمده"اهـ
• قلت في منظومة روضة الموحد:
وأنـه (الحـميـد) أي مـحمــودُ
وأبـلـغ، فـي نـفســه حـميــدُ
والحمد فهو الوصف بالجميلِ
بـعلمــه والـحـب والتبـجـيــلِ
لـنعــمــةٍ أو دون لا مـــــراءُ
والـحمـــد المتكــرر ثنــــاءُ
• فضل الحمد:
عَنْ أَبِي مَالِكٍ الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " الطُّهُورُ شَطْرُ الْإِيمَانِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَأُ الْمِيزَانَ، وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلَآنِ، أَوْ تَمْلَأُ مَا بَيْنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ. وَالصَّلَاةُ نُورٌ، وَالصَّدَقَةُ بُرْهَانٌ، وَالصَّبْرُ ضِيَاءٌ، وَالْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ. كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو، فَبَايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُهَا أَوْ مُوبِقُهَا" رواه مسلم
عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَحَبُّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ أَرْبَعٌ ؛ سُبْحَانَ اللَّهِ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، وَلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، لَا يَضُرُّكَ بِأَيِّهِنَّ بَدَأْتَ" أخرجه مسلم
عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَلَا أُخْبِرُكَ بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ ؟ " قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِأَحَبِّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ. فَقَالَ : " إِنَّ أَحَبَّ الْكَلَامِ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ ". أخرجه مسلم.
عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِنَّ اللَّهَ لَيَرْضَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَأْكُلَ الْأَكْلَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا، أَوْ يَشْرَبَ الشَّرْبَةَ فَيَحْمَدَهُ عَلَيْهَا ". أخرجه مسلم.
• ولنختم بدرّة من درر ابن القيم، بشيء من الاختصار، قال رحمه الله في طريق الهجرتين:
"فالحمد أَوسع الصفات وأَعم المدائح والطرق إِلى العلم به في غاية الكثرة، والسبيل إِلى اعتباره في ذرّات العالم وجزئياته وتفاصيل الأَمر والنهى واسعة جداً، لأَن جميع أَسمائه تبارك وتعالى حمد، وصفاته حمد وأَفعاله حمد، وأَحكامه حمد، وعدله حمد، وانتقامه من أَعدائه حمد، وفضله في إحسانه إلى أَوليائه حمد والخلق والأَمر إِنما قام بحمده ووجد بحمده وظهر بحمده وكان الغاية هي حمده فحمده سبب ذلك وغايته ومظهره وحامله فحمده روح كل شيء، وقيام كل شيء بحمده، وسريان حمده في الموجودات وظهور آثاره فيه أَمر مشهود بالأَبصار والبصائر: فمن الطرق الدالة على شمول معنى الْحمد وانبساطه على جميع المعلومات معرفة أَسمائه وصفاته، وإقرار العبد بأَن للعالم إِلهاً حياً جامعاً لكل صفة كمال واسم حسن وثناءٍ جميل وفعل كريم وأَنه سبحانه له القدرة التامة والمشيئة النافذة والعلم المحيط والسمع الذي وسع الأَصوات والبصر الذى أَحاط بجميع المبصرات والرحمة التي وسعت جميع المخلوقات والملك الأَعلى الذى لا يخرج عنه ذرة من الذرات والغنى التام المطلق من جميع الجهات والحكمة البالغة المشهود آثارها في الكائنات والعزة الغالبة بجميع الوجوه والاعتبارات والكلمات التامات النافذات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من جميع البريات، واحد لا شريك له في ربوبيته ولا في إلهيته، ولا شبيه له في ذاته ولا في صفاته ولا في أَفعاله، وليس له من يشركه في ذرة من ذرات ملكه، أَو يخلفه في تدبير خلقه، أَو يحجبه عن داعيه أَو مؤمليه أو سائليه، أَو يتوسط بينهم وبينه بتلبيس أَو فرية أَو كذب كما يكون بين الرعايا وبين الملوك، ولو كان كذلك لفسد نظام الوجود وفسد العالم بأَسره: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء: 22] فلو كان معه آلهة أُخرى كما يقول أَعداؤه المبطلون لوقع من النقص في التدبير وفساد الأَمر كله ما لا يثبت معه حالٍ، ولا يصلح عليه وجود. ومن أَعظم نعمه علينا وما استوجب حمد عباده له أَن يجعلنا عبيداً له خاصة ولم يجعلنا ربنا منقسمين بين شركاءَ متشاكسين، ولم يجعلنا عبيداً لإِله نحتته الأَفكار...
فللَّه العظيم أَعظم حمد وأَتمه وأَكمله على ما منَّ به من معرفته وتوحيده والإقرار بصفاته العلى وأَسمائه الحسنى، وإِقرار قلوبنا بأَنه الله الذي لا إِله إِلا هو عالم الغيب والشهادة رب العالمين قيوم السموات والأرضين إِله الأَولين والآخرين، ولا يزال موصوفاً بصفات الجلال، منعوتاً بنعوت الكمال، منزهاً عن أضدادها من النقائص والتشبيه والمثال. فهو الحي القيوم الذى لكمال حياته وقيوميته لا تأْخذه سنة ولا نوم، مالك السموات والأرض الذى لكمال ملكه لا يشفع عنده أَحد إِلا بإِذنه، العالم بكل شيء الذى لكمال علمه يعلم ما بين أَيدي الخلائق وما خلفهم فلا تسقط ورقة إلا بعلمه ولا تتحرك ذرة إلا بإذنه يعلم دبيب الخواطر في القلوب حيث لا يطلع عليها الملك ويعلم ما سيكون منها حيث لا يطلع عليه القلب، البصير الذى لكمال بصره يرى تفاصيل خلق الذرة الصغيرة وأعضائها ولحمها ودمها ومخها وعروقها، ويرى دبيبها على الصخرة الصماءِ في الليلة الظلماءِ، ويرى ما تحت الأرضين السبع كما يرى ما فوق السموات السبع. السميع الذى قد استوى في سمعه سر القول وجهره، وسع سمعه الأَصوات فلا تختلف عليه أَصوات الخلق ولا تشتبه عليه ولا يشغله منها سمع عن سمع ولا تغلطه المسائل ولا يبرمه كثرة السائلين، قالت عائشة: الحمد لله الذى وسع سمعه الأَصوات، لقد جاءَت المجادلة تشكو إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه ليخفى على بعض كلامها، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِع اللهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوجِهَا وَتَشْتَكِى إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسمَعَ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} [المجادلة: 1] ...
وقد نبه سبحانه على شمول حمده لخلقه وأَمره بأن حمد نفسه في أَول الخلق وآخره وعند الأَمر والشرع وحمد نفسه على ربوبيته للعالَمين، وحمد نفسه على تفرده بالإلهية وعلى حياته، وحمد نفسه على امتناع اتصافه بما لا يليق بكماله من اتخاذ الولد والشريك وموالاة أَحد من خلقه لحاجته إِليه، وحمد نفسه على علوه وكبريائه، وحمد نفسه في الأُولى والآخرة، وأخبر عن سريان حمده في العالم العلوى والسفلى، ونبه على هذا كله في كتابه وحمد نفسه عليه، فتنوع حمده وأسباب حمده، وجمعها تارة وفرقها أُخرى ليتعرف إِلى عباده ويعرفهم كيف يحمدونه وكيف يثنون عليه، وليتحبب إليهم بذلك ويحبهم إذا عرفوه وأحبوه وحمدوه. ..
أخبر عن حمد خلقه له بعد فصله بينهم والحكم لأهل طاعته بثوابه وكرامته والحكم لأهل معصيته بعقابه وإهانته {وَقُضِى بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيْلَ الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الزمر: 75] ...
فهذا تنبيه على أحد نوعى حمده، وهو حمد الصفات والأسماء.
والنوع الثاني حمد النعم والآلاءِ، وهذا مشهود للخليقة برها وفاجرها مؤمنها وكافرها، من جزيل مواهبه وسعة عطاياه وكريم أياديه وجميل صنائعه وحسن معاملته لعباده وسعة رحمته لهم وبره ولطفه وحنانه وإجابته لدعوات المضطرين وكشف كربات المكروبين وإغاثة الملهوفين ورحمته للعالمين وابتدائه بالنعم قبل السؤال ومن غير استحقاق بل ابتداءً منه بمجرد فضله وكرمه وإحسانه ودفع المحن والبلايا بعد انعقاد أسبابها وصرفها بعد وقوعها.
ولطفه تعالى في ذلك بإيصاله إلى من أراده بأحسن الألطاف، وتبليغه من ذلك إلى ما لا تبلغه الآمال، وهدايته خاصته وعباده إلى سبل دار السلام، ومدافعته عنهم أحسن الدفاع وحمايتهم عن مراتع الآثام، وحبب إليهم الإيمان وزينه في قلوبهم وكرَّه إليهم الكفر والفسوق والعصيان، وجعلهم من الراشدين وكتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه وسماهم المسلمين قبل أن يخلقهم، وذكرهم قبل أن يذكروه وأعطاهم قبل أن يسألوه وتحبب إليهم بنعمة مع غناه عنهم وتبغضهم إليه بالمعاصي وفقرهم إليه، ومع هذا كله فاتخذ لهم داراً وأعد لهم فيها من كل ما تشتيهه الأنفس وتلذ الأعين، وملأها من جميع الخيرات وأودعها من النعيم والحبرة والسرور والبهجة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، ثم أرسل إليهم الرسل يدعونهم إليها، ثم يسر لهم الأسباب التي توصلهم إليها وأعانهم عليها، ورضى منهم باليسير في هذه المدة القصيرة جداً بالإضافة إلى بقاءِ دار النعيم، وضمن لهم إن أحسنوا أن يثيبهم بالحسنة عشراً وإن أساؤوا واستغفروه أن يغفر لهم، ووعدهم أن يمحو ما جنوه من السيئات بما يفعلونه بعدها من الحسنات، وذكرهم بآلائه وتعرف إليهم بأسمائه، وأمرهم بما أمرهم به رحمة منه بهم وإحساناً لا حاجة منه إليهم، ونهاهم عما نهاهم عنه حماية وصيانة لهم لا بخلاً منه عليهم وخاطبهم بألطف الخطاب وأحلاه ونصحهم بأحسن النصائح ووصاهم بأكمل الوصايا وأمرهم بأشرف الخصال ونهاهم عن أقبح الأقوال والأعمال..."اهـ كلام ابن القيم رحمه الله
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق