شبهة المخاطبة والنداء
السرية على الشبهات الشركية (٧)
الحمد لله رب العالمين
في هذا المنشور الرد على أحد شبهاتهم العقيمة، التي يلوون بها النصوص، ويحرفونها عن مرادها، كمسألة التوسل السابقة، ولكن شبهتهم هنا أنهم يظنون أن كل نداء أو كل ما بدئ بـ"يا" للميت أو الجماد أنه دعاء له ، فيجعلونه دليلا على جواز دعاء الأموات والغائبين والاستغاثة بهم.
وخلاصة المسألة قبل الولوج فيها أن الاستغاثة الشركية هي مناداة الغائبين أو الأموات بالمدد والإغاثة، معتقدا أنه يسمعه أو يجيبه.
أما إذا كان النداء ندبة للتوجع أو التفجع كقول:
وامحمداه أو واإسلاماه، أو للتحسر ويكثر في المراثي، أو للتذكر والشوق، كمن ينادي محبوبته ويكثر في باب الغزل، أو للاستعارة البلاغية فيوجه النداء إلى من لم يقصد إسماعه، كمخاطبة النجم والطير والأطلال والمطايا كما يكثر عند الشعراء، أو يكون من باب التعجب، أو من يقول يا محمد انظر ما حال أمتك، أو أينك يا صلاح الدين، أو السلام عليك يا رسول الله، أو يا محمد صلى الله عليك، أو إنا بفراقك يا فلان (الميت) لمحزونون، ونحوها من العبارات التي ليس فيها حقيقة الطلب، وإنما لها مقاصد أخرى، فلا حرج فيها وليست استغاثة شركية بإجماع أهل العلم.
لأن الدعاء لا يتحقق إلا بوجود ثلاثة أركان:
طالب، ومطلوب، وطلب مقصود(حقيقة الطلب).
والطلب الحقيقي:
إما أن يكون صريحا، كأن يقول يا محمد افعل لي كذا، أو اعطني كذا، أو طلب غير صريح، كمن يحمل شيئا ثقيلا أو يعمل عملا شاقا ويقول يا محمد.
فإن توفرت الأركان الثلاثة ننظر فإن كان طلبا من حي حاظر قادر فهو ليس بشرك، وإن اختل أحد هذه الثلاثة بحيث كان الطلب من ميت أو غائب أو في ما ليس من قدرة المخلوق كغفران الذنوب، ودخول الجنان فقد اتخذ هذا المطلوب إلها وجعله لله ندا في الإحاطة بالمسموعات والأجابة للدعوات والمغفرة للسيئات، فجعل المخلوق الضعيف الفقير ، كالخالق القوي الغني والله المستعان.
عن عبد الله قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم كلمة وقلت أخرى قال النبي صلى الله عليه وسلم "من مات وهو يدعو من دون الله ندا دخل النار" وقلت أنا من مات وهو لا يدعو لله ندا دخل الجنة. صحيح البخاري.
فمناط الحكم في هذا الباب هو تحقق الطلب من غير الله فيما لا يقدر عليه إلا الله.
وهؤلاء القوم ظنوا أن الإنكار على شركهم إنما هو باعتبار النداء فقط دون وجود حقيقة الطلب الشركي.
• الجواب الإجمالي:
فيقال لهم في الجواب المجمل الإلزامي -ولو اكتفينا به لكفى-
فإن كان مجرد النداء دليلا للإستغاثة فما تقولون إذن في قول الرسول صلى الله عليه وسلم في بعض أذكار السفر" يا أرض ربي وربك الله" ومناداة صالح وشعيب وغيرهم لأقوامهم بعدما ماتوا ومن ذلك ما حكاه الله عن شعيب عليه السلام: { فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ( ٩٣ ) } [سورة الأعراف]
فهل تقولون بجواز الاستغاثة بالأرض والجمادات وأموات الكفار.
فإن قلتم نعم فقد أقررتم بشرككم وإن قلتم لا فقد بطل استدلالكم.
• الجواب المفصل:
ومن باب الرد المفصل يقال أن هؤلاء القوم قد تشبثوا بعدة آثار ظنوها مستمسكا لهم ومن ذلك:
- ما جاء عن ابن عمر أنه خدرت رجله فقال له رجل أذكر أحب الناس إليك فقال محمد وفي رواية يا محمد، وبنحوها عن ابن عباس وهذان الأثران خارج الكتب التسعة.
- وأن شعار الصحابة في بعض المعارك كان يا محمداه أو وا محمداه كما جاء في بعض كتب التاريخ.
- أن بلال بن الحارث عام الرمادة لما ذبح شاة فرآها هزيلة نادى: "وا محمداه" كما ورد في بعض كتب التاريخ.
فهذه ونحوها مما احتجوا به وأشاعوه وأذاعوه وظنوا أنهم وجدوا سلفا لهم في الشرك، ومن تأمل المقدمة علم الجواب ولكن من باب محق الباطل نقول وبالله نستعين:
هذه الآثار ضعيفة، لا يحتج بها، بل بعضها من الموضوعات، ولو صحت فلا دليل عليها كما سيتبين بإذن الله.
• أولا في أثر الخدر فلا يصح فمدار أسانيده على أبي إسحاق السبيعي ولا تخلو من علل منها:
1- الجهالة في طبقة من يحدث عنهم ابو إسحاق.
2- سماع أبي إسحاق غير مثبت في الكتب وهو مشهور بالتدليس.
أما أثر ابن عباس فهي رواية شديدة الضعف في سندها غياث بن إبراهيم ذكر عنه أحمد والبخاري ترك الناس حديثه، وفي سنده ضعفاء آخرون، ولم يصح في الذكر عند الخدر أثر، ولم يرد فيه حديث.
- وعلى فرض صحته فلا حجة فيه، فذكر محمد صلى الله عليه وسلم في هذا السياق ليس من باب الاستغاثة، ولا الطلب منه كما يدعي المحرفون، فهو لم يقل يا محمد أزل خدري أو أشكوا إليك مرضي، وإنما الذكر المجرد ( ذكر المحبوب).
وقول يا محمد في الرواية الأخرى التي هي أشد ضعفا لا يلزم منه الاستغاثة وإنما على إرادة استحضار المنادى في القلب كما يقول المصلي في صلاته السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، والانسان يفعل مثل هذا كثيرا في حياته اليومية يخاطب من يتصوره في نفسه.
وقد كان هذا النوع من العلاج للخدر مستعملا عند العرب قديما، فذكر المحبوب يجلب له الشوق إليه فيهيج الدم في العروق، فيكون سببا لذهاب الخدر، والصحابة كانوا يحبون النبي صلى الله عليه وسلم حبا شديدا، فعند الخدر إذا ذكر اسمه هاج الشوق وتحرك الدم فذهب الخدر، وليس فيه استغاثة ولا طلب، بل قد يتحقق هذا بين أي محبوبين، وقد يكون بذكر الزوجة أو الولد، بل قد يتحقق بين الفجرة في فجورهم، ولهذا شواهد من شعر العرب ومن ذلك ما جاء في الحماسة البصرية ونسبه إلى الأقيشر:
وما خدرت رجلاي إلا ذكرتكم *** فيذهب عن رجلاي ما تجدانِ
وجاء في الأمالي في لغة العرب للقالي من قول امرأة من كلاب:
إذا خدرت رجلي ذكرت ابن مصعبِ *** فإن قلت عبد الله أجلى فتورها
• أما شعار يا محمداه فلم يصح عن الصحابة وإنما ورد ذلك في السير الضعيفة بأسانيد مظلمة، فهي من طريق سيف بن عمر وهو متروك الحديث متفق على ضعفه عند المحدثين قال الذهبي عنه متروك باتفاق ، وفيه رجل مجهول.
وكتب التاريخ ليست مضان الأحكام ولا الاستشهاد وقد قال كبير المؤرخين ابن جرير الطبري في تاريخه الأمم والملوك: "فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه أو يستشنعه سامعه من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة ولا معنى في الحقيقة فليعلم أن لم يؤت ذلك من قبلنا وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا وأنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا"اهـ
- وعلى فرض صحته فهو ليس من باب الاستغاثة والطلب وإنما هو من باب الندبة وهي نداء المتفجع عليه أو المتوجع منه، فكأن المسلمين بشعارهم هذا يستنهضون الهمم بالتفجع على رسولهم وعلى دينه الحنيف.
وهناك لطيفة ذكرها بعضهم في اختيار هذا الشعار -لو صح عنهم ذلك- أنهم كانوا في حروب الردة، ضد من ادعى النبوة، فناسب هذا الشعار للتذكير بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم وأنه خاتم الرسل لا نبي بعده.
- ومن باب التأكيد فهناك فرق في اللغة العربية بين الاستغاثة والندبة.
فالاستغاثة: نوع من أنواع النداء، فإنها نداء من يخلص من الشدة أو يعين على مشقة، ولا يستعمل فيها من حروف النداء إلا "يا" ولا يحذف معها.
وإذا قصد بالنداء الاستغاثة، لزم غالبا خفض المنادى بلام الجر.
أما الندبة: فلا يراد بها سؤالا ولا طلبا، بل هي للتوجع أو حسن الثناء على المندوب، فهي تعبير المنادى المتفجع على فقده نحو وا محمداه أو لتنزيله منزلة المفقود، أو للمتوجع له أو منه.
ولا يستعمل فيها من حروف النداء إلا "وا" -"يا" ولا تستعمل "يا" إلا عند أمن اللبس، فإذا خيف اللبس تعينت "وا".
وللندبة شواهد حديثية منها:
عَنْ أَنَسٍ قَالَ : لَمَّا ثَقُلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَعَلَ يَتَغَشَّاهُ، فَقَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ : وَا كَرْبَ أَبَاهُ. فَقَالَ لَهَا : لَيْسَ عَلَى أَبِيكِ كَرْبٌ بَعْدَ الْيَوْمِ. فَلَمَّا مَاتَ قَالَتْ : يَا أَبَتَاهْ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهْ، يَا أَبَتَاهْ مَنْ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهْ، يَا أَبَتَاهْ إِلَى جِبْرِيلَ نَنْعَاهْ. فَلَمَّا دُفِنَ قَالَتْ فَاطِمَةُ عَلَيْهَا السَّلَامُ : يَا أَنَسُ، أَطَابَتْ أَنْفُسُكُمْ أَنْ تَحْثُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التُّرَابَ ؟ رواه البخاري
ولفظ ابن ماجه عَنْ أَنَسٍ ، أَنَّ فَاطِمَةَ قَالَتْ حِينَ قُبِضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : وَاأَبَتَاهُ، إِلَى جَبْرَائِيلَ أَنْعَاهُ، وَاأَبَتَاهُ مِنْ رَبِّهِ مَا أَدْنَاهُ، وَاأَبَتَاهُ جَنَّةُ الْفِرْدَوْسِ مَأْوَاهُ، وَاأَبَتَاهُ أَجَابَ رَبًّا دَعَاهُ. قَالَ حَمَّادٌ : فَرَأَيْتُ ثَابِتًا حِينَ حَدَّثَ بِهَذَا الْحَدِيثِ بَكَى، حَتَّى رَأَيْتُ أَضْلَاعَهُ تَخْتَلِفُ.
فالندب ليس من باب الدعاء والطلب في شيء لو كانوا يعقلون.
• وأما أثر بلال بن الحارث فهي رواية تاريخية واهية من طريق سيف بن عمر وهو متروك الحديث باتفاق كما سبق ذكره، وفي سنده أيضا مبشر بن الفضيل وهو مجهول وذكره العقيلي في الضعفاء.
ولو صح فيكون من باب الندبة والتفجع على أمة محمد صلى الله عليه وسلم كما هو موضوع له في اللغة، ويدل عليه سياق الحال، لا من باب الاستغاثة كما يظنه بعض المتأخرين الذين أضاعوا لغة العرب وأساليبها، فأضلوا أنفسهم وغيرهم، وقدحوا في خيار الأمة المحمدية والله المستعان.
• بصيرة:
قال الطبري في تفسيره لآية غافر:
" (هو الحي) يقول: هو الحي الذي لا يموت، الدائم الحياة، وكل شيء سواه فمنقطع الحياة غير دائمها (لا إله إلا هو) يقول: لا معبود بحق تجوز عبادته، وتصلح الألوهة له إلا الله الذي هذه الصفات صفاته، فادعوه أيها الناس مخلصين له الدين، مخلصين له الطاعة، مفردين له الألوهة، لا تشركوا في عبادته شيئا سواه، من وثن وصنم، ولا تجعلوا له ندا ولا عدلا (الحمد لله رب العالمين) يقول: الشكر لله الذي هو مالك جميع أجناس الخلق، من ملك وجن وإنس وغيرهم، لا للآلهة والأوثان التي لا تملك شيئا، ولا تقدر على ضر ولا نفع، بل هو مملوك، إن ناله نائل بسوء لم يقدر له عن نفسه دفعا"اهـ.
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق