الدعاء عبادة
السرية على الشبهات الشركية (٣)
((هام جدا))
بسم الله..
هذا المنشور في بيان أن الدعاء عبادة، والعبادات لا تصرف إلا لله وحده:
ومعذرة -مقدما- على بعض الإطالة اضطرارا، لأن هذا الموضوع من ((أهم المواضيع))، وإذا فهم على وجهه تهاوت أمامه كل شبهة شركية، فنقول مستعينين بالله:
• الدعاء: نداء وطلب، فإن كان لطلب الغوث والتخلص من المكروه فهو استغاثة، وإن كان لطلب العوذ والاعتصام والحرز فهو استعاذة، وإن كان لطلب العون فهو استعانة، وإن كان لطلب النصر فهو استنصار وهكذا فالدعاء أعم من هذه الأشياء، فكل استغاثة دعاء وليس كل دعاء استغاثة.
وهذا النداء بجميع أنواعه:
١- إن كان لحي حاضر فيما يقدر عليه المخلوق عادة كاستغاثة من عدو أو استنصار عليه ونحوه فهو جائز وليس بعبادة بالإجماع.
ومن الحماقة الظن أن هناك من أهل العلم من يرى أن مجرد هذا الطلب من الحي الحاضر في شيء من قدرة الإنسان عادة أنه من الشرك الأكبر، وفيه من الأدلة على جوازه ماحكاه الله لنا في سورة القصص{ وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِن شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ ( ١٥ ) }
فهذه استغاثة بحي حاضر قادر والأدلة في ذلك كثيرة وصريحة.
2- وأحمق من الأول من يري أن هذا النداء إذا كان فيما لا يقدر عليه المخلوق عادة، أو كان للغائبين أو الأموات أنه ليس بعبادة -واستدلوا عليه بأدلة النوع الأول- إلا إذا اقترن معه اعتقاد شيء من صفات الربوبية لغير الله من النفع والضر بذواتهم فيكون شركا من هذه الحيثية فقط، فجعلوا العبادة راجعة لتوحيد الربوبية لا لتوحيد الألوهية والعبادة، أي ليس معنى لا إله إلا الله: لا معبود حق إلا الله، وإنما لا قادر إلا الله، وهذا سبب ضلالهم في التوحيد كما سبق بيانه في المنشور السابق.
والله سبحانه قد ذم في القرآن من استعاذ بالغائبين من المخلوقين فقال {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الْإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (٦)} [سورة الجن] ونهى عن دعاء غيره كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
• فتبين أن النداء لا يكون من أنواع العبادات إلا إذا كان طلبا حقيقيا لا مجازيا-وسيأتي توضيحه بإذن الله في رد شبهة الاستغاثة بعد المنشور التالي-، ويكون فيما لا يقدر عليه إلا الله أو كان المطلوب المخلوق غائبا بموت قد انقطعت معه حياته الدنيوية-وسيأتي بإذن الله جواب شبهتهم في الحياة البرزخية في رد شبهات الاستغاثة-، أو ببعد ولا تواصل بينهما بمكتوب ونحوه، سواء كان هناك اعتقاد التأثير لغير الله أو لم يكن.
• ومما يبين ذلك ويدل على أن الدعاء من العبادات استدلال السلف على المعتزلة بأن القرآن غير مخلوق بما جاء في الحديث من الاستعاذة بكلمات الله فيما لا يقدر عليه المخلوق عادة ومعنى كلامهم أن الاستعاذة عبادة لا تجوز لمخلوق، والاستعاذة نوع من أنواع العبادة.
قال نعيم بن حماد في كتابه الرد على الجهمية: "دلت هذه الأحاديث على أن القرآن غير مخلوق، إذ لو كان مخلوقاً لم يستعذ بها، إذ لا يستعاذ بمخلوق، قال الله تعالى: فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ [الأعراف: 200] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإذا استعذت فاستعذ بالله)) اهـ.
وهذا يؤكد أن هذه المسألة – وهي عدم جواز الاستعاذة بغير الله – كانت معلومة عند الموافق والمخالف، وإلا لما أوردها عليهم.
ونظير هذا الاستدلال ما قاله ابن خزيمة: " أفليس العلم محيطاً يا ذوي الحجا أنه غير جائز أن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتعوذ بخلق الله من شر خلقه؟ هل سمعتم عالماً يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالكعبة من شر خلق الله؟ أو يجيز أن يقول الداعي: أعوذ بالصفا والمروة، أعوذ بعرفات ومنى من شر ما خلق الله؟ هذا لا يقوله ولا يجيز القول به مسلم يعرف دين الله، محال أن يستعيذ مسلم بخلق الله من شر خلقه" اهـ.
وقال ابن عبد البر في التمهيد في باب ما يؤمر به من التعوذ:
"مَالِكٌ عَنْ سُهَيْلِ بْنِ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ قَالَ مَا نِمْتُ هَذِهِ اللَّيْلَةَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم من أَيِّ شَيْءٍ فَقَالَ لَدَغَتْنِي عَقْرَبٌ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا إِنَّكَ لَوْ قُلْتَ حِينَ أَمْسَيْتَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ تَضُرَّكَ
هَذَا حَدِيثٌ مُسْنَدٌ مُتَّصِلٌ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ كَلِمَاتِ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقَةٍ لِأَنَّهُ لَا يُسْتَعَاذُ بِمَخْلُوقٍ وَالْقُرْآنُ كَلَامُهُ جَلَّ جَلَالُهُ "اهـ
وقال البيهقي في كتاب الأسماء والصفات:
" ولا يصح أن يستعيذ بمخلوق من مخلوق"اهـ
والنقولات في هذا المعنى كثيرة فما إن ابتدع المبتدعة القول بخلق القرآن إلا وتسارع السلف بالرد عليهم بأن الاستعاذة عبادة ولا يجوز الاستعاذة بمخلوق، والاستغاثة كالاستعاذة تتضمن الافتقار وطلب الكفاية، والفرق بينهما أن الاستعاذة طلب دفع الشر قبل وقوعه، والاستغاثة طلب رفعه بعد نزوله فهي أعظم، وكلاهما دعاء، والدعاء عبادة، والعبادة لا تجوز لمخلوق.
مع أنهم لم يحرموا كل استعاذة بمخلوق ففي الاستعاذة به فيما يقدر عليه مع حضوره وقدرته جائزة، وهو مقتضى الأحاديث الواردة في صحيح مسلم وغيره لما ذكر النبي الفتن، قال: "فمن وجد من ذلك ملجأ، فليعذ به"، وكذلك قصة المرأة التي عاذت بأم سلمة، والغلام الذي عاذ بالنبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك في قصة الذين يستعيذون بالحرم والكعبة ونحوه.
• ومن الأدلة على أن الدعاء عبادة قوله تعالى:{ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُّسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ ( ١٣ ) إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤) يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ( ١٥ ) } [سورة فاطر]
وقوله: {قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٤ ) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ ( ٥ ) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ( ٦ ) } [سورة الأحقاف]
ففي آيات سورة فاطر والأحقاف دلالة واضحة على أن المقصود بالدعاء هنا هو دعاء الطلب والسؤال الذي هو نوع من أنواع العبادة لعدة دلالات منها أنهم لا يستجيبون للدعاء، وأن المدعوون يتبرؤون يوم القيامة ممن دعاهم، وبيّن في هذه الآيات أن الدعاء من العبادة التي لا يجوز صرفها لغير الله لقوله في آية الأحقاف " وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ " فسمى دعاءهم عبادة وكذلك في سورة غافر { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ ( ٦٠ ) } [سورة غافر] ، وجعله من الشرك كما في سورة فاطر "وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ"، وبين في الآيات أنهم مقرّون بأن معبوداتهم الباطلة ليست لها شيء من صفات الربوبية لا استقلالا، ولا مشاركة، ولا تأثيرا، فقد استدل عليهم بأنه هو الخالق والمالك وأن معبوداتهم لا تملك شيء ولا تخلق، وليس لها مشاركة مع الله في ذلك -وهذا مقرر في آيات كثيرة ذكرنا بعضها في المنشور السابق وأنهم مقرون بذلك- إذن فلماذا تعبدون غيره معه وأنتم تعلمون أن لا خالق ولا مدبر إلا هو، وهذه الآيات تبين أن من صرف أي عبادة لغير الله ومنها الدعاء فقد أشرك ولو لم يعتقد في المدعو من دون الله أي شيء من صفات الربوبية.
والآيات بحمد الله واضحة مبينة لقضية #لتوحيد والشرك، والمتدبر للقرآن يرى ذلك جليا في كثير من الآيات إلا من ختم الله على قلبه فلا حيلة فيه.
• ولكن لهؤلاء القوم شبهة يوردونها هنا تضليلا لأنفسهم ولأتباعهم، وهي أن الدعاء في هذه الآيات بمعنى العبادة لا بمعنى السؤال والطلب،
والجواب:
أن الدعاء في القرآن ولغة العرب له معنيان
الأول منهما بمعنى العبادة،
والثاني بمعنى الطلب والسؤال وهو نوع من أنواع العبادة،
فلأول عبادة الله بأي نوع من أنواع العبادات القلبية أو البدنية أو المالية، كالصلاة والصيام والذبح والصدقة والذكر والخشية، وغيرها من العبادات الجلية والخفية يرجوا رحمة ربه ويخشى عذابه فهو مسألة بلسان الحال لا بصيغة السؤال،
والثاني هو طلب ما ينفع أو دفع ما يضر كأن يسأل الله المغفرة والرحمة والهداية والرزق والعافية والنصر والغوث وغيره فهو مسألة بلسان المقال.
والدعاء في القرآن يراد به هذا تارة وهذا تارة ويراد به مجموعهما؛ وهما متلازمان فكل دعاء عبادة مستلزم لدعاء المسألة. وكل دعاء مسألة متضمن لدعاء العبادة.
ومثل هذا قوله: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ يتناول نوعي الدعاء. وبكل منهما فسرت الآية. قيل: أعطيه إذا سألني. وقيل: أثيبه إذا عبدني، وهما متلازمان، فكل سائل بلسانه فهو عابد له، لأن الدعاء عبادة، وكل عابد يصلي لله أو يصوم فهو يفعل ذلك لإرادة الثواب من الله، والنجاة من النار، فهو سائل لله بلسان الحال.
وكذلك بكل من هذين النوعين فسرت سورة فاطر والأحقاف ولا تعارض بينهما لأن المقصود من الشرك هو صرف العبادة لغير الله سواء كان بعبادة الركوع والسجود، أو بعبادة الطلب والسؤال(الدعاء).
قال القرطبي في تفسيره على آية فاطر وفسر فيها الدعاء بالطلب والسؤال الذي هو من أنواع العبادة:
"قوله تعالى: (إن تدعوهم لا يسمعوا دعاءكم) أي إن تستغيثوا بهم في النوائب لا يسمعوا دعاءكم، لأنها جمادات لا تبصر ولا تسمع، إذ ليس كل سامع ناطقا. وقال قتادة: المعنى لو سمعوا لم ينفعوكم.
وقيل: أي لو جعلنا لهم عقولا وحياة فسمعوا دعاءكم لكانوا أطوع لله منكم، ولما استجابوا لكم على الكفر. (ويوم القيامة يكفرون بشرككم) أي يجحدون أنكم عبدتموهم، ويتبرؤون منكم، ثم يجوز أن يرجع هذا إلى المعبودين مما يعقل، كالملائكة والجن والأنبياء والشياطين أي يجحدون أن يكون ما فعلتموه حقا، وأنهم أمروكم بعبادتهم، كما أخبر عن عيسى بقوله:" ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق" [المائدة: 116] ويجوز أن يندرج فيه الأصنام أيضا، أي يحييها الله حتى تخبر أنها ليست أهلا للعبادة". اهـ كلام القرطبي.
وقال البيضاوي(ت 685هـ) في تفسيره أنوار التنزيل:
""وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ" إنكار أن يكون أحد أضل من المشركين حيث تركوا عبادة السميع البصير المجيب القادر الخبير إلى عبادة من لا يستجيب لهم لو سمع دعاءهم، فضلاً أن يعلم سرائرهم ويراعي مصالحهم. إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ما دامت الدنيا. وَهُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ لأنهم إما جمادات وإما عباد مسخرون مشتغلون بأحوالهم، وَإِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً يضرونهم ولا ينفعونهم. وَكانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ مكذبين بلسان الحال أو المقال" اهـ
وقال ابن بطال (المتوفى: 449هـ) في شرحه على صحيح البخاري لكِتَاب الدَّعَاء:
" أمر الله تعالى عباده بالدعاء وضمن لهم الإجابة في قوله: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] فإن قيل: فقد علمت تأويل من تأوّل قوله تعالى: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) [غافر: 60] ادعوني بطاعتكم إياي وعبادتكم لي: أستجب لكم في الذى التمستم منى بعبادتكم إياي. قال الطبري: فالجواب: أن من طاعة العبد ربه دعاءه إياه ورغبته في حاجته إليه دون ما سواه، والمخلص له العبادة المتضرع إليه في حاجته موقن أن قضاءها بيده متعرض لنجحها منه، ومن عبادته إياه تضرعه إليه فيها، وقد روى وكيع عن سفيان، عن صالح مولى التوءمة، عن أبى هريرة قال: قال رسول الله: (من لم يدع الله غضب الله عليه) . وروى شعبة، عن منصور، عن ذَرِّ، عن يُسَيْعٍ الحضرمي، عن النعمان بن بشير عن النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: (الدعاء هو العبادة) وقرأ: (ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي) [غافر: 60] فسمى الدعاء عبادة" اهـ شرح ابن بطال.
• ومن نصوص العلماء في أن الدعاء الذي هو الطلب والنداء من العبادة غير ما نقلناه سابقا:
أخرج ابْن الْمُنْذر وَالْحَاكِم وَصَححهُ عَن ابْن عَبَّاس رَضِي الله عَنْهُمَا قَالَ: "أفضل الْعِبَادَة الدُّعَاء وَقَرَأَ {وَقَالَ ربكُم ادْعُونِي أَسْتَجِب لكم}"اهـ
وقال أبو سليمان الخطابي (المتوفى: 388هـ) في شأن الدعاء:
"قَوْلُهُ: "الدعاء هُوَ العِبَادَةُ" مَعْنَاهُ أنهُ مُعْظَمُ العِبَادَةِ، أوْ أفْضَلُ العِبَادةِ، كَقَوْلهم: الناس بنو تَميْمٍ، وَالمَالُ الإبِلُ، يُرِيْدُوْنَ: أنهم أفْضَلُ الناس، أو أكْثرُهُمْ عَدَدَاً أوْ مَا أشبَهَ ذَلِكَ، وَإن الإبِلَ أفْضَلُ أنوَاعِ الأموَالِ، وَأنبَلُهَا. وَكَقَولِ النبِي - صلى الله عليه وسلم -:"الحَج عَرَفَةُ"، يُرِيْدُ: أن مُعْظَمَ الحَجِّ الوُقُوفُ بِعَرَفَةَ. وذلك؛ لأنه إذَا أدرَكَ عَرَفَةَ، فَقَدْ أمِنَ فَوَاتَ الحَج. ومثله في الكلام كثير "اهـ.
قال أبو بكر الخوارزمي محمد بن العباس (المتوفى: 383هـ) في مفيد العلوم ومبيد الهموم:
"اعلم أن الدعاء نوع عبادة، قال النبي صلّى الله عليه وسلم: الدعاء هو العبادة وقال الله تعالى إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ
سمى الدعاء عبادة، والدعاء هو العبادة والدعاء له ...والدعاء أفضل العبادات لا يتداخله الرياء والدعاء هو الاقتصاد لا يدخله الرياء والعمل يدخله العجب بخلاف الدعاء وقال لا ينجو في آخر الزمان الا من يدعو دعاء الغرق" اهـ ص166-168
وقال الرازي على آية الأعراف ادعو ربكم تضرعا.." واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة" .اهـ
وقال الحسين بن الحسن أبو عبد الله الحَلِيمي (المتوفى: 403 هـ) في المنهاج في شعب الإيمان:
"وأما الفصل الحادي عشر: وهو أن لا يدعو ضجرا مستعجلا، فإن ذلك فعل من له حق عند آخر يقتضيه، وليس لأحد من الله حق حاصل عنده، متأخر عنه، فيستعجل به ويضجر من تأخره، فلا عتب ولا اعتراض عليه ولأن الدعاء عبادة واستكانة والضجر والاستعجال به إقصاء بهما فدل ذلك على أنهما من الحوائل بينهما وبين الإجابة كما يرجى أن يكون خلافهما من مقربات الإجابة والله أعلم فهذه الأركان "اهـ
وقال: أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي (المتوفى: 463هـ) في الاستذكار:4/224
"وَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ بَلْ قَالُوا إِنَّهُ أَفْضَلُ الْعِبَادَةِ لِمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالْيَقِينِ وَالرَّجَاءِ" اهـ
وقال َفي التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد:
"إنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعَلِّمُ أَصْحَابَهُ الدُّعَاءَ فَيَحُضُّهُمْ عَلَيْهِ وَيَأْمُرُهُمْ بِهِ وَيَقُولُ إِنَّ الدُّعَاءَ هُوَ الْعِبَادَةُ وَيَتْلُو وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخرين "اهـ12/158
وقال أبو زكريا محيي الدين النووي (المتوفى: 676هـ) في المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج على حديث رقم1367
"وَمَذْهَبُ الْعُلَمَاءِ كَافَّةً أَنَّ الدُّعَاءَ عِبَادَةٌ مُسْتَقِلَّةٌ وَلَا يُسْتَجَابُ مِنْهُ إِلَّا مَا سَبَقَ بِهِ الْقَدَرُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ" اهـ
قال أبو العباس، أحمد بن عبد الرحمن بن قدامة المقدسي (المتوفى: 689هـ) مُخْتَصَرُ مِنْهَاجِ القَاصِدِينْ:
"كتاب الأذكار والدعوات وغيرها
اعلم: أنه ليس بعد تلاوة القرآن عبادة تؤدى باللسان أفضل من ذكر الله سبحانه وتعالى، ورفع الحوائج بالأدعية الخالصة إليه تعالى... وأما فضيلة الدعاء: فقد روى أبو هريرة رضى الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ليس شيء أكرم على الله عز وجل من الدعاء" و "أشرف العبادة الدعاء" و "من لا يسأل الله يغضب عليه". وفى حديث أخر: "سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل" اهـ.
• والدعاء عبادة لأنه مأمور به في الشرع ورُتِّب عليه الجزاء في الآخرة
قال أحمد محمد القصَّاب (المتوفى: نحو 360هـ) في النكت الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام:
"الدعاء:
وقوله: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65)
دليل على أن الدعاء عبادة يثاب عليه الداعي، ألا ترى أن الله -جل وتعالى- جعله في جملة ما مدح به عباده في هذا المدح، ويؤيده قوله:
(وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي)، فسماه عبادة.
وروى النعمان بن بشير، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه
قال: " الدعاء هو العبادة " ثم قرأ هذه الآية ".اهـ
وقال أبو عبد الله الرازي (المتوفى: 606هـ) في مفاتيح الغيب التفسير الكبير:
"والوجه الثالث: وهو أن الدعاء نوع من أنواع العبادة فكما أنه سبحانه وتعالى أمر بالصلاة والصوم فكذلك أمر بالدعاء ويدل عليه قوله تعالى: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب [البقرة: 186]. وقال ربكم ادعوني أستجب لكم [غافر: 60]. وادعوه خوفا وطمعا [الأعراف: 56]. ادعوا ربكم تضرعا وخفية [الأعراف: 55]. هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين [غافر: 65]. قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن [الإسراء: 110]. واذكر ربك في نفسك تضرعا وخيفة [الأعراف: 205] وقال صلى الله عليه وسلم: «ادعوا بيا ذا الجلال والإكرام» فبهذه الآيات عرفنا أن الدعاء عبادة "اهـ 22\34
وقال فضل الله شهاب الدين التُّورِبِشْتِي (المتوفى: 661 هـ) في كتابه الميسر في شرح مصابيح السنة:
"ومن الحسان حديث النعمان بن بشير - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: (الدعاء هو العبادة) ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني أستجب لكم} الآية.
قلت:(التوربشتي) ذكر الآية بعد الحديث على وجه البيان له؛ لأن في الآية الأمر بالدعاء، والقيام بحكم الأمر هو العبادة، والعبد إذا سأل ربه وشكا إليه ضره، ورفع إليه حاجته فقد علم أن ربه مرغوب إليه في الحوائج، ذو قدرة على ما يشاء، وعلم أنه عبد ضعيف لا يملك لنفسه نفعا ولا ضرا، واعترف بالفقر والفاقة والذلة لمن يدعوه فلذلك قال: (هو العبادة) ليدل على معنى الاختصاص، كما تقول لمن يحمي الحقيقة: هو الرجل، ثم أنه إذا رأى إنجاح الأمور من الله قطع أمله عمن سواه، ودعاه لحاجته موحدا، وهذا هو الأصل في العبادة" اهـ.
وقال القاضي ناصر الدين البيضاوي (ت 685هـ) في شرحه لكتاب الدعوات في كتاب تحفة الأبرار شرح مصابيح السنن:
" قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الدعاء هو العبادة ثم قرأ {وقال ربكم ادعوني استجب لكم} ".
وروي: "الدعاء مخ العبادة".
(من الحسان):
"عن نعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: الدعاء هو العبادة، ثم قرأ: {وقال ربكم ادعوني استجب لكم} [غافر: 60].
ويروى:" الدعاء مخ العبادة".
لما حكم بأن الدعاء هو العبادة الحقيقية التي تستأهل أن تسمى عبادة، من حيث إنه يدل على أن فاعله مقبل بوجهه إلى الله تعالى، معرض عما سواه، لا يرجو ولا يخاف إلا منه استدل عليه بالآية، فإنها تدل على أنه أمر مأمور به، إذا أتى به المكلف قبل منه لا محالة، وترتب عليه المقصود ترتب الجزاء على الشرط، والمسبب على السبب، وما كان كذلك كان أتم العبادات وأكملها، ويقرب منه الرواية الأخرى، فإن مخ الشيء خالصه "اهـ.
• فما مضى بعض نصوص أهل العلم التي تنص على أن الدعاء عبادة وبيان سبب ذلك
فإذا تبين لنا أنه عبادة فلا ينبغي أن تصرف إلا للمستحق لها وهو الخالق المدبر النافع الضار سبحانه لأنه بيده الأمر وكل من هو دونه ليس لهم من الأمر شيء، إنما هم من عباده وداخلون في جملة قوله تعالى في آيات سورة فاطر السابقة المقررة للتوحيد (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ).
وعَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُنَّا إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى وَادٍ هَلَّلْنَا وَكَبَّرْنَا، ارْتَفَعَتْ أَصْوَاتُنَا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، ارْبَعُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ فَإِنَّكُمْ لَا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلَا غَائِبًا، إِنَّهُ مَعَكُمْ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ، تَبَارَكَ اسْمُهُ وَتَعَالَى جَدُّهُ ".
فلا يستحق أن يُدعى إلا المتصف بالقدرة التامة والكمال الباقي والعلام للغيوب الذي لا يعزب عنه شيء ويعلم السر وأخفى ولا تغالطه الأصوات بكثرة الطلبات وتعدد اللغات واللهجات بل وما في نفس الأخرس من الحاجات وهذا لله وحده دون أحد من خلقه.
هذه صفة الخالق المعبود وهؤلاء المشركون جعلوها لمن هو دونه، فمن اعتقد أن مخلوقا حاظر ناظر وعالم بالعباد وسميع للدعوات من كل مكان وفي كل آن مع تعدد الراغبين إليه فقد أشرك به مع الله سبحانه وتعالى شركا زيادة على شرك العبودية، ظلمات بعضها فوق بعض، وقد قال الله تعالى:{ أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( ٦٢ ) } [سورة النمل]، فحصر الإجابة عليه وهؤلاء القوم أبو إلا أن يدخلوا معه غيره، عليا والحسين وعبد القادر والبدوي والعيدروس وغيرهم من المخلوقين، فساووهم بالخالق وتنقصوا المعبود سبحانه بحيث جعلوا له آلهة شركاء ، ولا يستجيب إلا بالوسطاء، ولذا فالشرك أعظم الظلم.
قال القرطبي في تفسيره على آية سورة البقرة: { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ( ١٨٦ ) }:
"وقيل: إنما مقصود هذا الاخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء" ومن أضل ممن يدعوا من دون الله من لا يستجيب له " [الأحقاف: 5] الآية."اهـ
وقال الرازي على آية الأعراف { ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ( ٥٥ ) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ( ٥٦ ) }
" واعلم أن الدعاء نوع من أنواع العبادة... بل نقول الدعاء يفيد معرفة ذلة العبودية ويفيد معرفة عزة الربوبية، وهذا هو المقصود الأشرف الأعلى من جميع العبادات وبيانه أن الداعي لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف من نفسه كونه محتاجا إلى ذلك المطلوب وكونه عاجزا عن تحصيله وعرف من ربه وإلهه أنه يسمع دعاءه، ويعلم حاجته وهو قادر على دفع تلك الحاجة وهو رحيم تقتضي رحمته إزالة تلك الحاجة، وإذا كان كذلك فهو لا يقدم على الدعاء إلا إذا عرف كونه موصوفا بالحاجة وبالعجز وعرف كون الإله سبحانه موصوفا بكمال العلم والقدرة والرحمة، فلا مقصود من جميع التكاليف إلا معرفة ذل العبودية وعز الربوبية، فإذا كان الدعاء مستجمعا لهذين المقامين لا جرم كان الدعاء أعظم أنواع العبادات. وقوله تعالى: ادعوا ربكم تضرعا وخفية إشارة إلى المعنى الذي ذكرناه لأن التضرع لا يحصل إلا من الناقص في حضرة الكامل فما لم يعتقد العبد نقصان نفسه وكمال مولاه في العلم والقدرة والرحمة لم يقدم على التضرع، فثبت أن المقصود من الدعاء ما ذكرناه" اهـ
• ومما يوضح أيضا أن الشرك يكون في دعاء الطلب والنداء الذي هو من أنواع العبادة ولو لم يعتقدوا في ما يدعون بعض صفات الربوبية ما قصه الله لنا في غير ما آية من أن المشركين إذا اشتد بهم الكرب دعوا الله ونادوه مخلصين له الدين والدعاء، ونسوا معبوداتهم التي كانوا يشركونها في الدعاء، مما يبين اعترافهم أن القدرة والتدبير لله وحده دون معبوداتهم، ثم إذا نجاهم الله عادوا إلى دعاء غير الله وتركوا إخلاصهم الذي كان وقت الشدة.
الشاهد أن الدعاء هنا هو النداء والطلب، وأن الإخلاص والشرك فيه، مع اعترافهم أن الملك والتدبير لله وحده.
قال الطبري على آية لقمان: { وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِين لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} . " يقول تعالى ذكره: وإذا غشى هؤلاء موج كالظلل، فخافوا الغرق، فزعوا إلى الله بالدعاء مخلصين له الطاعة، لا يشركون به هنالك شيئا، ولا يدعون معه أحدا سواه، ولا يستغيثون بغيره".اهـ
وقال النحاس على آية العنكبوت: { فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ }
"وقوله جل وعز فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين أي فإذا أصابتهم شدة دعوا الله وحده وتركوا ما يعبدون من دونه وقوله جل وعز فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون أي يدعون معه غيره"اهـ
وقال أبو الليث السمرقندي (المتوفى: 373هـ) في بحر العلوم على آية العنكبوت:"ثم "قال: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ يعني: في السفن دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ يعني:
موحدين وتركوا دعاء أصنامهم، ويعلمون أنه لا يجيبهم أحد إلا الله تعالى. فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ يعني: إلى القرار إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ به".اهـ
• وهذه الآيات وغيرها تبين أن الدعاء من الدين، وما هو من الدين فهو عبادة يجب إخلاصها لله وحده
قال البغوي في شرح السنة قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [الْأَعْرَاف: 29] ، وَقَوله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] ، أَي: التَّوْحِيد، وَالدّين: اسْم لجَمِيع مَا تعبد اللَّه بِهِ خلقه."اهـ
وقال السمعاني (المتوفى: 489هـ) في تفسيره قَوْله تَعَالَى: {هُوَ الْحَيّ لَا إِلَه إِلَّا هُوَ فَادعوهُ مُخلصين لَهُ الدّين} وَالدُّعَاء على الْإِخْلَاص أَلا يدعوا مَعَه سواهُ".اهـ
• وأما تفاهتهم من بعد هذه الأدلة والنقول بأن هناك فرقا بين الدعاء والنداء وأن الدعاء لا يكون عبادة إلا باعتقاد التصرف في المعبود، فإن لم يكن كذلك فهو نداء
فالجواب: أن هذا قول من لا عقل له ولا يعرف الشرع ولا اللغة ولو اكتفينا بما مضى لكفى في رد هذه الشبهة الركيكة ولكن من باب الدفع يقال:
كلاً من الدعاء والنداء جاءا في القرآن تارة يكون المقصود بهما العبادة وهذا إذا كانا فيما لا يقدر عليه المخلوق عادة أو كانا طلبا للأموات والغائبين، وتارة يكون المقصود به غير العبادة وإنما مجرد النداء والطلب وهذا إذا كان طلبا من مخلوق ويقدر عليه المخلوق عادة.
فمن الأول ففي سورة هود قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلَا تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (٤٢)} فهذا مجرد نداء لا عبادة وبعدها بآيات قال تعالى {وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (٤٥)} وهذا النداء عبادة
بل وقد ذكر الله دعوة نوح في استنصاره لربه مرة بلفظ النداء ومرة بلفظ الدعاء وكلاهما المقصود منها العبادة فقال في سورة القمر { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانتَصِرْ ( ١٠ ) } وقال في سورة الصافات { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ ( ٧٥ ) }
وأما الدعاء بمعنى غير العبادة ففي قوله تعالى في سورة الحجرات { لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ( ٦٣ ) } وبمعنى العبادة بالطلب والسؤال ففي قوله { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ( ٣٨ ) } [سورة آل عمران]
قال أبو جعفر النَّحَّاس النحوي (المتوفى: 338هـ) في كتاب إعراب القرآن:
"وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75)
وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ من النداء الذي هو استغاثة ودعاء. فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ قال الكسائي: فلنعم المجيبون له كنا "اهـ.
وقال أبو بشر، اليمان بن أبي اليمان البَندنيجي، (المتوفى: 284 هـ) في التقفية في اللغة
"وَالنِّدَاءُ: مِنَ الدُّعَاءِ".اهـ ص44
والآيات والنقول في ذلك كثيرة وإنما هذا مجرد مثال لبيان ضلالتهم في هذا، وتهافت معتقدهم.
وقد بينا الضابط بين ما هو عبادة وغير عبادة سواء سميناه نداء أو دعاء ما ذكرناه في أول المنشور فانظره.
• وأما قولهم بأنه لا يسمى عبادة حتى يعتقد الداعي استقلال المدعو بالتدبير أو المشاركة في ذلك يرده ما ذكرناه من كيفية شرك مشركي قريش في المنشور السابق وبعض ما ذكرناه قبل قليل.
ولزيادة الإيضاح ليحيي من حيى عن بينة ويهلك من هلك عن بينة فهذا نقل لأحد أئمة الأشاعرة المعتبرين عند الصوفية المتكلمين أبو عبد الله الرازي فقد قال على آية الأعراف: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ ( ١٣٨ ) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ( ١٣٩ ) قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ( ١٤٠ ) }:
قال: " ثم حكى تعالى عنهم أنهم ﴿قالوا ياموسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة﴾ واعلم أن من المستحيل أن يقول العاقل لموسى: اجعل لنا إلها كما لهم آلهة وخالقا ومدبرا؛ لأن الذي يحصل بجعل موسى، وتقديره: لا يمكن أن يكون خالقا للعالم ومدبرا له، ومن شك في ذلك لم يكن كامل العقل، والأقرب أنهم طلبوا من موسى عليه السلام أن يعين لهم أصناما وتماثيل يتقربون بعبادتها إلى الله تعالى، وهذا القول هو الذي حكاه الله تعالى عن عبدة الأوثان حيث قالوا: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾ [الزمر: ٣] .
إذا عرفت هذا فلقائل أن يقول: لم كان هذا القول كفرا؟ فنقول: أجمع كل الأنبياء عليهم السلام على أن عبادة غير الله تعالى كفر، سواء اعتقد في ذلك الغير كونه إلها للعالم، أو اعتقدوا فيه أن عبادته تقربهم إلى الله تعالى؛ لأن العبادة نهاية التعظيم، ونهاية التعظيم لا تليق إلا بمن يصدر عنه نهاية الإنعام والإكرام ". اهـ
وهؤلاء القوم المقصودون بالرد فيهم شبه باليهود في اتخاذ آلهة من المخلوقين بصرف بعض أنواع العبادة لها من دعاء أو غيره
ولكن الفرق بينهما أن بني إسرائيل طلبوا ذلك من رسولهم فنهاهم فانتهوا ولم يفعلوا
وهؤلاء شرعوا ذلك لأنفسهم بأنفسهم بلا إثارة من علم وفعلوا ما أراده اليهود من اتخاذ الآلهة.
• والخلاصة والمقصود أن الدعاء عبادة وإن سموها بغير اسمها كالتوسل والتشفع، إراحة لضمائرهم، وتلبيسا على أتباعهم، فحقائق الأشياء لا تتغير بتغير أسمائها، كمن يسمي الخمر بغير اسمه، فالشرك إنما حرم لقبحه في نفسه وكونه متضمنا مسبة للرب وتنقصه وتشبيهه بالمخلوقين، وتشبيه المخلوقين به سبحانه وتعالى فلا تزول هذه المفاسد بتغيير الاسم وإنما بالعودة إلى التوحيد وإخلاص العبادة له وحده.
وأنت ترى أننا لم نذكر نقل عن ابن تيمية ولا محمد بن عبد الوهاب ولا ممن هم ممن بعدهما -على شرطتنا في هذا الرد -حتى تزاح غشاوة أن توحيد الألوهية بدعة تيمية أو وهابية.
وفي المنشور الرابع إن شاء الله الجواب على شبهة التوسل لتجويز الاستغاثة بالأموات.
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق