الصمد
الحمد لله الصمد، وأصلي وأسلم على خير من له عبد... أما بعد: -
فمعنا اليوم اسم عظيم من أسماء الله الحسنى، في سلسلة، خلاصة المعنى للأسماء الحسنى، وهو اسم الصمد.
لم يجيء في القرآن إلا في موضع واحد مشهور في قوله تعالى: { اللَّهُ الصَّمَدُ}، وجاء في السنة في مواضع منها عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَصْحَابِهِ : " أَيَعْجِزُ أَحَدُكُمْ أَنْ يَقْرَأَ ثُلُثَ الْقُرْآنِ فِي لَيْلَةٍ ؟ " فَشَقَّ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ، وَقَالُوا : أَيُّنَا يُطِيقُ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ فَقَالَ : " اللَّهُ الْوَاحِدُ الصَّمَدُ ثُلُثُ الْقُرْآنِ ". أخرجه البخاري
• معناه في اللغة:
يدل على القصد والسيادة والصلابة والاجتماع ونحوه.
• معناه في حق الله:
جاء فيها عن السلف أقوال يمكن ارجاعها إلى ثلاثة معاني:
1- السيد الكامل في السؤدد، ويُصمد إليه في الحوائج والرغبات.
ورجحه ابن جرير الطبري فقال:
"الصمد عند العرب: هو السيد الذي يُصمد إليه، الذي لا أحد فوقه، وكذلك تسمى أشرافها؛ ومنه قول الشاعر:
ألا بَكَرَ النَّاعي بِخَيْرَيْ بَنِي أسَدْ ... بِعَمْرِو بْنِ مَسْعُودٍ وبالسَّيِّدِ الصَّمَدْ
وقال الزبرقان:
وَلا رَهِينَةً إلا سَيِّدٌ صَمَدُ
فإذا كان ذلك كذلك، فالذي هو أولى بتأويل الكلمة، المعنى المعروف من كلام من نزل القرآن بلسانه"اهـ
وكذلك اختاره أبو عبيدة في مجاز القرآن فقال: "هو الذي يصمد إليه ليس فوقه أحد والعرب كذلك تسمّى أشرافها"اهـ
ورجحه الخطابي في شأن الدعاء فقال:
"هو السيد، الذي يصمد إليه في الأمور، ويقصد في الحوائج والنوازل، وأصل الصمد: القصد، يقال للرجل: اصمد صمد فلان. أي: اقصد قصده، وجاء في التفسير: أن الصمد الذي قد انتهى سؤدده. وقيل: الصمد: الدائم.
وقيل: الباقي بعد فناء الخلق. وأصح هذه الوجوه ما شهد له معنى الاشتقاق. والله أعلم"اهـ
وقال في معالم السنن: "والصمد هو السيد الذي يصمد في الحوائج أي يقصد فيها ويعتمد لها".اهـ
قال السعدي:
﴿اللَّهُ الصَّمَدُ﴾ أي: المقصود في جميع الحوائج. فأهل العالم العلوي والسفلي مفتقرون إليه غاية الافتقار، يسألونه حوائجهم، ويرغبون إليه في مهماتهم، لأنه الكامل في أوصافه، العليم الذي قد كمل في علمه، الحليم الذي قد كمل في حلمه، الرحيم الذي كمل في رحمته الذي وسعت رحمته كل شيء، وهكذا سائر أوصافه"اهـ
2- المصمت الذي لا جوف له ولا أحشاء، ولا يأكل الطعام ولا يشرب، ولا يلد ولا يخرج منه شيء سبحانه.
وهذا جاء عن أكثر السلف، ولكن يستنكره بعض المتكلمين جهلا منهم ورد عليهم شيخ الإسلام ابن تيمية في بيان تلبيس الجهمية بنحو سبع وثلاثين وجها ومما قال فيه:
"ولفظ الصمد يدل على أنه لا جوف له وعلى أنه السيد ليس كما تقول طائفة من الناس أن الصمد في اللغة إنما هو السيد ويتعجبون مما نقل عن الصحابة والتابعين من أن الصمد هو الذي لا جوف له فإن أكثر الصحابة والتابعين فسروه بهذا وهم أعلم باللغة وبتفسير القرآن، ودلالة اللفظ على هذا أظهر من دلالتها على السؤددة وذلك أن لفظ (ص م د) يدل على الاجتماع والانضمام المنافي للتفرق والخلو والتجويف كما يقال صمد المال وصمده تصمدًا إذا جمعه وضم بعضه إلى بعض ومنه في الاشتقاق الأكبر الصمت والتصمت فإن التاء والدال أخوان متقاربان في المخرج والاشتقاق الأكبر هو ما يكون فيه الكلمتان قد اشتركت في جنس الحرف فالكلمتان اشتركتا في الصاد والتاء، والتاء والدال أخوان يقال صمت صماتًا وصموتًا وأصمت وإصماتًا وهو جمع وضم ينافي الانفتاح والتفريج ولهذا يقال للعظام ونحوها من الأجسام منها أجوف ومنها مُصْمَت"اهـ
3- الباقي الذي لا يفنى ولا يزول، ولا تعتريه الآفات ولا العيوب.
وهذا القول جاء عن جمع من السلف وأهل العلم وهو من تمام الصمدية فإن الذي لا يبقى أو كان يزول لا يستحق أن يكون صمدا.
• والراجح والله أعلم أن الصمد يشمل هذه المعاني كلها وخلاصة معناه أنه الكامل في صفاته المفتقر إليه جميع مخلوقاته.
قال ابن كثير في تفسيره:
"وقد قال الحافظ أبو القاسم الطبراني في كتاب السنة له، بعد إيراده كثيرا من هذه الأقوال في تفسير "الصمد": وكل هذه صحيحة، وهي صفات ربنا، عز وجل، وهو الذي يصمد إليه في الحوائج، وهو الذي قد انتهى سؤدده، وهو الصمد الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب، وهو الباقي بعد خلقه. وقال البيهقي نحو ذلك أيضا"اهـ
وقال أبو إسحاق الزجاج في معاني القرآن بعد أن ذكر الأقوال في الصمد:
"وكلها تدل على وحدانيته وهذه الصفات كلها يجوز أن تكون للَّهِ عزَّ وجلَّ".اهـ
• وأشهر معنيان تداولا بين السلف هو الأول والثاني وكلاهما له شواهد من كلام العرب لا كما قال ابن جرير.
قال في أضواء البيان على آية الأنعام: "وهو يطعم ولا يطعم":
"من المعروف في كلام العرب إطلاق الصمد على السيد العظيم، وعلى الشيء المصمت الذي لا جوف له، فمن الأول قول الزبرقان:
سيروا جميعا بنصف الليل واعتمدوا ولا رهينة إلا سيد صمد
وقول الآخر:
علوته بحسام ثم قلت له ∗∗∗ خذها حذيف فأنت السيد الصمد
وقول الآخر:
ألا بكر الناعي بخير بني أسد ∗∗∗ بعمرو بن مسعود وبالسيد الصمد
ومن الثاني قول الشاعر:
شهاب حروب لا تزال جياده ∗∗∗ عوابس يعلكن الشكيم المصمدا
فإذا علمت ذلك، فالله تعالى هو السيد الذي هو وحده الملجأ عند الشدائد والحاجات، وهو الذي تنزه وتقدس وتعالى عن صفات المخلوقين، كأكل الطعام ونحوه، سبحانه وتعالى عن ذلك علوا كبيرا".اهـ
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى:
"والاسم " الصمد " فيه للسلف أقوال متعددة قد يظن أنها مختلفة؛ وليس كذلك؛ بل كلها صواب. والمشهور منها قولان: أحدهما: أن الصمد هو الذي لا جوف له. والثاني: أنه السيد الذي يصمد إليه في الحوائج والأول هو قول أكثر السلف من الصحابة والتابعين وطائفة من أهل اللغة. والثاني قول طائفة من السلف والخلف وجمهور اللغويين والآثار المنقولة عن السلف بأسانيدها في كتب التفسير المسندة وفي كتب السنة وغير ذلك وقد كتبنا من الآثار في ذلك شيئا كثيرا بإسناده فيما تقدم. وتفسير " الصمد " بأنه الذي لا جوف له معروف عن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا وعن ابن عباس والحسن البصري ومجاهد. وسعيد بن جبير وعكرمة والضحاك والسدي وقتادة وبمعنى ذلك قال سعيد بن المسيب قال: هو الذي لا حشو له. وكذلك قال ابن مسعود: هو الذي ليست له أحشاء وكذلك قال الشعبي: هو الذي لا يأكل ولا يشرب. وعن محمد بن كعب القرظي وعكرمة: هو الذي لا يخرج منه شيء. وعن ميسرة قال: هو المصمت. قال ابن قتيبة: كأن الدال في هذا التفسير مبدلة من تاء والصمت من هذا. قلت: لا إبدال في هذا ولكن هذا من جهة الاشتقاق الأكبر وسنبين إن شاء الله وجه القول من جهة الاشتقاق واللغة"اهـ
• قلت في منظومة روضة الموحد:
(والصمد)كمالـه والســؤددُ
ومن إليـه بـالحاجات يُصمدُ
والمصمت لا جوف، والبقاءُ
فـــهذه الــمـعــانـي مــراءُ
• الفرق بين صمدية الخالق، وصمدية المخلوق:
قال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى:
"وأما اسم (الصمد) فقد استعمله أهل اللغة في حق المخلوقين. كما تقدم. فلم يقل الله صمد بل قال: {الله الصمد} فبين أنه المستحق؛ لأن يكون هو الصمد دون ما سواه فإنه المستوجب لغايته على الكمال والمخلوق وإن كان صمدا من بعض الوجوه؛ فإن حقيقة الصمدية منتفية عنه؛ فإنه يقبل التفرق والتجزئة وهو أيضا محتاج إلى غيره فإن كل ما سوى الله محتاج إليه من كل وجه فليس أحد. يصمد إليه كل شيء ولا يصمد هو إلى شيء إلا الله تبارك وتعالى وليس في المخلوقات إلا ما يقبل أن يتجزأ ويتفرق ويتقسم وينفصل بعضه من بعض والله سبحانه هو الصمد الذي لا يجوز عليه شيء من ذلك بل حقيقة الصمدية وكمالها له وحده واجبة لازمة لا يمكن عدم صمديته بوجه من الوجوه؛ كما لا يمكن تثنية أحديته بوجه من الوجوه "اهـ
• خاطرة:
اقصد الصمد واصمد إليه في كل حاجة دينية أو دنيوية، فبابه مفتوح وهو دائم الوجود، وكل الخلق تحتاج إليه -وأنت منهم- وهو الغني عن عباده ولكن يرحمهم ويتفضل عليهم وفي يده مقاليد كل شيء، فاسأل ولا تستكثر المطلوب ولا تستعظمه، فإنك تسأل الملك الكريم الوهاب الذي إذا أراد شيئا إنما يقول له كن فيكون.
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق