معنى الألوهية
السرية على الشبهات الشركية (٢)
﷽
يقول الضال:
(نحن لا نعبد غير الله… ولا نعلم أحدا يعبد أحدا أو يشرك بالله)
وبنى قوله في هذه الجزئية على أربع شبه وهي:
١-أن ما يفعلونه من طلب المدد والاستغاثة بغير الله هي مجرد توسل وتشفع وليس بعبادة.
٢- إن الاستغاثة بالأموات والغائبين جائزة لعدة أمور ذكرها.
٣- دلل على قوله بأن هذه الأمور ليست شركا لأن الشرك لا يقع في هذه الأمة على حسب فهمه لحديث" : " إن الشيطان قد أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب، ولكن في التحريش بينهم ".
٤- وأنه من الغلط تنزيل الآيات التي ذمت المشركين على من استغاث بغير الله لأنهم مسلمون.
هذه الجزئية الأولى من كلامه وفيه هذه الشبه الأربعة غير شبهه الأخرى التي سنتناولها لاحقا بإذن الله.
ولتعم الفائدة ولا يطول المنشور ولا يختصر الرد جدا، سيكون الرد في عدة منشورات على عدة أيام بإذن الله.
نبدأ في هذا المنشور بمعرفة ما هي العبادة التي أمرنا الله بالإخلاص فيها، والتي هي زبدة دعوة الرسل ﷺ {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ}، ثم في منشورنا التالي بإذن الله ندلل على أن الدعاء ومنه الاستغاثة من العبادة التي أمرنا الله بالإخلاص فيها، ثم المنشورات التالية في رد شبهاته المذكورة.
أولا: فكلمة التوحيد التي جاءت بها جميع الرسل هي (لا إله إلا الله)
كما قال تعالى: {يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ} [سورة النحل (2)]
وقال ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ (٢٥)﴾ [الأنبياء]
وتعني هذه الكلمة إخلاص العبادة لله وحده وعدم الإشراك به فيها.
والعبادة لغة: الطاعة مع الخضوع – قال الراغب: (العبودية: إظهار التذلل، والعبادة أبلغ منها لأنها غاية التذلل).
وقال الزجاج (ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع) (وقال الجوهري (أصل العبودية: الخضوع والتذلل)
وشرعا هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة.
قال ابن جرير الطبري على آية الأنبياء السابقة:
"يقول تعالى ذكره: وما أرسلنا يا محمد من قبلك من رسول إلى أمة من الأمم إلا نوحي إليه أنه لا معبود في السماوات والأرض، تصلح العبادة له سواي فاعبدون يقول: فأخلصوا لي العبادة، وأفردوا لي الألوهية"اهـ.
فكل ما ثبت أنه عبادة بحيث أمرنا الله بها وتعبدنا فيها فموضعها لله وحده، وجعلها في غير موضعها من الظلم العظيم ولذا قال تعالى: { وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ ( ١٣ ) } [سورة لقمان]
ومعنى لا إله إلا الله أي لا معبود حق إلا الله وهذا المعنى بدلالة القرآن والسنة واللغة وعلماء السلف.
قال تعالى: {أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا ( ٦) } [سورة آل عمران]
وقوله {أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ ( ٢ ) } [سورة هود]
وقوله { وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ( ٢٣ ) } [سورة الإسراء]
ومما يدل على هذا المعنى أيضا قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ ( ٢٦ ) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ( ٢٧ ) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ( ٢٨ ) } [سورة الزخرف]
وفي الصحيحين من حديث معاذ أن النبي ﷺ قال له
"فَإِنَّ حَقَّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ أَنْ يَعْبُدُوهُ وَلَا يُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا" الحديث
قال الزجاج في تفسير أسماء الله: "ومعنى قولنا: إله إنما هو الذي يستحق العبادة، وهو تعالى المستحق لها دون من سواه"اهـ
وقال ابن فارس في مقاييس اللغة: "(أله) الهمزة واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبد، فالإله: الله تعالى، وسمي بذلك لأنه معبود، ويقال : تألّه الرجل: إذا تعبّد ".اهـ
وقال: أبو عبيد أحمد بن محمد الهروي (المتوفى 401 هـ) في الغريبين في القرآن والحديث
"(أل هـ) قوله تعالى: {قالوا نعبد إلهك} يعني: الذي تلجأ إليه وتستغيث به وسميت/ أصنام المشركين آلهة؛ لأنهم كانوا يلجأون إليها فقال الله تعالى: {أإله مع الله} أي: أيؤله إلى غيره؟ وقوله: {ويذرك وإلاهتك} أي وعبادتك في قراءة من قرأها. ومن قرأ: {وآلهتك} أراد: أصنامك وقالوا للشمس إلاهة؛ لأنهم عبدوها قال الشاعر:
وأعجلنا الإلهة أن تئوبا
وقال أبو الهيثم، في قوله: {لا إله إلا الله} أي لا معبود إلا الله. والتأله: التعبد".اهـ
وقال ابن جرير الطبري في تفسير سورة الفاتحة:
"فإن قال: وما دل على أن الألوهية هي العبادة، وأن الإله هو المعبود، وأن له أصلا في "فعل ويفعل". قيل: لا تمانع بين العرب في الحكم لقول القائل - يصف رجلا بعبادة، وبطلب مما عند الله جل ذكره: "تأله فلان" - بالصحة ولا خلاف. ومن ذلك قول رؤبة بن العجاج:
لله در الغانيات المدَّه سبحن واسترجعن من تألهي
يعني: من تعبدي وطلبي الله بعملي."اهـ
وقال على آية طه: { اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى ( ٨ ) } [سورة طه]
"وأما قوله تعالى ذكره (الله لا إله إلا هو) فإنه يعني به: المعبود الذي لا تصلح العبادة إلا له، يقول: فإياه فاعبدوا أيها الناس دون ما سواه من الآلهة والأوثان (له الأسماء الحسنى) يقول جل ثناؤه: لمعبودكم أيها الناس الأسماء الحسنى"اهـ
وقال على آية غافر: "﴿هُوَ الْحَيُّ﴾ يقول: هو الحي الذي لا يموت، الدائم الحياة، وكل شيء سواه فمنقطع الحياة غير دائمها ﴿لا إِلَهَ إِلا هُوَ﴾ يقول: لا معبود بحق تجوز عبادته، وتصلح الألوهة له إلا الله الذي هذه الصفات صفاته، فادعوه أيها الناس مخلصين له الدين، مخلصين له الطاعة، مفردين له الألوهة، لا تشركوا في عبادته شيئا سواه، من وثن وصنم، ولا تجعلوا له ندا ولا عدلا ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾"اهـ
وقال القرطبي على آية { وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَّا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ ( ١٦٣ ) } [سورة البقرة]
"الثانية- قوله تعالى:" لا إله إلا هو" نفي وإثبات. أولها كفر وآخرها إيمان، ومعناه لا معبود إلا الله"اهـ.
وقال المنتجب الهمذاني (المتوفى: 643 هـ) في الكتاب الفريد في إعراب القرآن المجيد:
"قال أهل المعاني: والإِله من أسماء الأجناس كالرجل والفرس، اسم يقع على كل معبود بحق أو باطل، ثم غُلِّبَ على المعبود بحق"اهـ.
وبهذا يتبين أن الإله يطلق على المعبود سواء كان حقا أو باطلا فكل من صرف عبادة لشيء فقد اتخذه معبودا وكان المشركون يعبدون الله ويعبدون غيره من المخلوقات بصرف بعض أنواع العبادات لها لتشفع لها إلى الله وتقربهم إليه زلفى وجاءت الرسل بالتوحيد وهو حصر العبادة لله وحده فلا إله إلا الله أي لا معبود حق إلا الله وكل ما سوى الله فهو معبود باطل ولا يتم التوحيد إلا بالتبرئ منه كما قال تعالى { ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( ٦٢ ) } [سورة الحج]
قال ابن جرير:
"يعني تعالى ذكره بقوله ﴿ذلكَ﴾ هذا الفعل الذي فعلت من إيلاجي الليل في النهار، وإيلاجي النهار في الليل، لأني أنا الحقّ الذي لا مثل لي ولا شريك ولا ندّ، وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون إلها من دونه هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء، بل هو المصنوع، يقول لهم تعالى ذكره: أفتتركون أيها الجهال عبادة من منه النفع وبيده الضر وهو القادر على كل شيء وكلّ شيء دونه، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته"اهـ
وبما سبق يتبين أن من فسر الإله في كلمة التوحيد بالقدرة على الاختراع أو الخالق ونحوها من صفات الربوبية فقد جانب الصواب وأضل الطريق، فهو ليس معنى الكلمة بل من لازمها للإله الحق, فإن اللازم له أن يكون خالقاً, قادراً على الاختراع, ومتى لم يكن كذلك فليس بإله حق, وإن سمي إلهاً، وليست تفسيرا للإله، فلو كان المعنى كذلك لما استكبر عنها مشركو مكة كما في قول الله تعالى { إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ ( ٣٥ ) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ ( ٣٦ ) } [سورة الصافات]
ولم يقولوا أيضا {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( ٥ ) } [سورة ص]
فإن القوم كانوا مقرين بأن ذلك لله وحده كما أخبر الله عنهم في آيات كثيرة منها:
{ قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٤ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ ( ٨٥ ) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( ٨٦ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٨٧ ) قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٨٨ ) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ( ٨٩ ) } [سورة المؤمنون]
وقوله { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٣١ ) } [سورة يونس]
وقوله { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ( ٦١ ) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ٦٢ ) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( ٦٣ ) } [سورة العنكبوت]
ولكن أهل الكلام ومن تبعهم من الصوفية والرافضة لما اختل عندهم مفهوم لا إله إلا الله وظنوا أن مقصوده الأعظم هو توحيد الربوبية صرفوا جل اهتمامهم فيه، وجعلوه الغاية من التوحيد، فانحرف كثير من متأخريهم عن توحيد الألوهية أي توحيد العبادة فدخل عليهم الشرك وهم لا يعلمون، وظنوا أنه لا شرك إلا إذا اختل توحيد الربوبية واعتقد الداعي فيمن يدعوه النفع والضر، أو الخلق والتدبير
وهذه بعض نقول مشائخهم في ذلك:
قال الفقي في التوسل والزيادة:
"لا يفهم من معنى العبادة شرعا إلا أنها الإتيان بأقصى الخضوع قلبا باعتقاد الربوبية في المخضوع له"اهـ
قال القباني في فصل الخطاب: "فهل سمعت عن أحد من المستغيثين أنه يعتقد في الرسول صلى الله عليه وسلم أو في الولي المستغاث به أنه إله مع الله تعالى يضر وينفع ويشفع بذاته كما يعتقد المشركون فيمن عبدوه..."اهـ
وقال محمد بن عبد المجيد في الرد على بعض المبتدعة: "إنما كفر أهل الجاهلية بعبادة الأصنام لتضمنها اعتقادهم ثبوت شيء من صفات الربوبية لها ... ومن هذه الحيثية شركهم وكفرهم لأن صفاته تعالى تجب لها الوحدانية بمعنى عدم وجود نظير لها إلا قائم بذاته تعالى لا بذات أخرى" اهـ
وقال الزهاوي في الفجر الصادق: " إن المشركين إنما كفروا بسبب اعتقادهم في الملائكة والأنبياء والأولياء أنهم آلهة مع الله يضرون وينفعون بذواتهم" اهـ
ويقول علوي مالكي في المفاهيم:
"لا يكفر المستغيث إلا إذا اعتقد الخلق والإيجاد لغير الله"اهـ
ومن الرافضة محمد حسين يقول في رسالته نقض فتاوى الوهابية : "فهل تحس أن أحدا من زوار القبور يقصد أن القبر الذي يطوف حوله، أو صاحبه الملحود فيه هو صانعه وخالقه، أو أنه يقول للغير أو لمن فيه: يا خالقي ويا رازقي ويا معبودي ... کلا ثم كلا... ما أحسب أن أحدا يخطر على باله شيء من تلك المعاني .. ."اهـ
ويقول الخميني في الحكومة الإسلامية عن الشرك أنه" طلب شيء من أحد غير الله باعتباره ربا وما عدا ذلك فليس شركا"اهـ
فبالله عليك يا عبد الله قارن بين ما ذكره الله عن غالب المشركين بإقرارهم بأن الله هو الخالق الرازق المدبر وحده وأنه لم ينفعهم لأنهم لم يخلصوا له العبادة والدعاء، وقول هؤلاء المفترون أن سبب كفرهم هو اعتقاد النفع والضر فيهم استقلالا أو تأثيرا على الله أو تدبير الكون كذلك، فلازم كلام هؤلاء أن كفار قريش الذين أقروا بالخلق والملك والتدبير لله وحده غير مشركين، سبحانك هذا بهتان عظيم.
وتأمل قول الله { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ( ١٠٦ ) } [سورة يوسف] أي يؤمنون بأنه الخالق الرازق المدبر وحده ثم يعبدون معه غيره
فتأمل يا عبد الله مرة أخرى هذه الآيات الأخرى ولا تمر عليها سريعا قال تعالى:
{ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ ( ٣٨ ) } [سورة الزمر]
وقوله { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ ( ٦٩ ) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ ( ٧٠ ) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ ( ٧١ ) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ ( ٧٢ ) أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ ( ٧٣ ) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ ( ٧٤ ) قَالَ أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ ( ٧٥ ) أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ ( ٧٦ ) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ ( ٧٧ ) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ( ٧٨ ) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ ( ٧٩ ) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ ( ٨٠ ) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ ( ٨١ ) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ( ٨٢ ) رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ( ٨٣ ) } [سورة الشعراء]
ثم تأمل بماذا كانوا يلبون في حجهم فقد روى مسلم عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ : كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ : لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ : فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَيْلَكُمْ، قَدْ قَدْ ". فَيَقُولُونَ : إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ".
وبين ابن اسحاق في السير معناه فقال: "يوحدون فيه بالتلبية، ثم يدخلون معه أصنامهم ويجعلون ملكها بيده، يقول الله لمحمد ﷺ { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُم بِاللَّهِ إِلَّا وَهُم مُّشْرِكُونَ ( ١٠٦ ) } [سورة يوسف]"اهـ
وهل عندما قالوا { أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ ( ٥ ) وَانطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ ( ٦ ) } [سورة ص] هل يستنكرون "إلها واحدا" أي مدبرا ونافعا واحدا، واصبروا على آلهتكم أي المدبرة النافعة الضارة بذاتها
يا قوم لقد جعلتم كتاب الله متناقضا من أجل تبرير شرككم.
ثم تأمل هذا الأثر فعن أبي رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيَّ قال : "كُنَّا نَعْبُدُ الْحَجَرَ، فَإِذَا وَجَدْنَا حَجَرًا هُوَ أَخْيَرُ مِنْهُ أَلْقَيْنَاهُ، وَأَخَذْنَا الْآخَرَ، فَإِذَا لَمْ نَجِدْ حَجَرًا جَمَعْنَا جُثْوَةً مِنْ تُرَابٍ، ثُمَّ جِئْنَا بِالشَّاةِ، فَحَلَبْنَاهُ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُفْنَا بِهِ"رواه البخاري
فهل يعقل إنهم يعتقدون في مثل هذا النفع أو الضر استقلالا أو تأثيرا في ربوبية الله.
فهل بعد هذا كله هناك فرق بين مشركي قريش وبين هؤلاء القوم في شرك العبادة، فإن كان لا يوجد إلا شرك في الربوبية فالجميع إذن مسلمون عندهم ولكن نحن نصدق قول الله تعالى الذي هو أصدق قيلا وحديثا والحمد لله
قال الطبري على قوله تعالى في سورة الأنعام:
﴿وَيَجْعَلُونَ لِمَا لا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (٥٦) ﴾
"يقول تعالى ذكره: ويجعل هؤلاء المشركون من عَبَدة الأوثان، لما لا يعلمون منه ضرا ولا نفعا نصيبا. يقول: حظا وجزاء مما رزقناهم من الأموال، إشراكا منهم له الذي يعلمون أنه خلقهم، وهو الذي ينفعهم ويضرّهم دون غيره"اهـ.
فإن أراد أصحاب دعوى أن الشرك في الربوبية فقط قيام دعواهم فعليهم أن يثبتوا ذلك من النصوص بما يدل على أن كل كفار العرب- لا بعضهم- كانوا يعتقدون في أصنامهم شيئا من صفات الربوبية من التدبير ونحوه إما استقلالا أو تأثيرا في ربوبية الله وأنّى لهم ذلك.
بل ما أثبتناه عن كفار قريش بواضح الأدلة وأقوال الأئمة يكفي في بطلان حجتهم بل لو أثبتنا ذلك عن طائفة قليلة منهم لكفى ذلك في أبطال دعواهم -لأن دليلهم قائم على أن الله تعالى لم يحكم على العرب بالشرك في العبادة إلا لأنهم اعتقدوا في أصنامهم الربوبية المستقلة أو المشاركة لربوبية الله -كيف وغالب مشركوا العرب على عدم اعتقاد صفات الربوبية لمعبوداتهم الباطلة.
• الخلاصة أن هناك مقدمتين ونتيجة:-
١- غالب مشركي العرب كانوا مقرين بأن الخالق المدبر للكون والنافع الضار هو الله وحده لا شريك له في ذلك لا استقلالا ولا تأثيرا.
٢- سماهم الله مشركين لمجرد عبادات كانوا يصرفونها لأوثانهم لتقربهم إلى الله زلفى.
-إذن فكل من صرف عبادة لغير الله ولو لم يعتقد فيها صفة من صفات الربوبية لا استقلالا ولا مشاركة مع الله فهو مشرك مثلهم لأنه جعل مع الله معبودا آخر يستحق العبادة.
فاتضح أنه لا يشترط من كونهم مشركون أن يشركوا في الربوبية، بل الشرك في الربوبية هو شرك آخر وأعظم سواء وجد عند بعضهم أو لم يوجد.
وأن المعبودات التي اتخذوها هي معبودات باطلة
والتوحيد هو لا إله إلا الله أي لا معبود حق إلا الله لأنه الخالق الرازق المدبر.
فربوبيته تدل على أنه وحده المستحق للعبادة ولا تنفي تسمية ما صرف لغيره أنها عبادة لها وأنهم جعلوها آلهة معه، بل تثبت ذلك ولكن تجعلها آلهة (معبودات)باطلة
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( ٦٢ ) } [سورة الحج]
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ( ٦ ) } [سورة الحج]
وإلى هنا انتهى ما أردنا إيصاله من معنى العبادة بشيء من الإختصار ومنشورنا التالي بإذن الله في أن الدعاء عبادة من أجل العبادات لا تنبغي إلا لله وحده.
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق