الحق
الحمد لله الحق الذي لا شك فيه ولا يزول، وقوله الحق ووعده الحق، وأصلي وأسلم على المبعوث بالحق... أما بعد: -
ففي منشور اليوم سنتشرف بالحديث عن اسم من أسماء الله الحسنى وهو الحق، ضمن سلسلة: خلاصة المعنى للأسماء الحسنى.
وهذا الاسم العظيم جاء في عشر مواضع من القرآن منها:
قوله تعالى: {فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُون } [سورة يونس:32].
ضوقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِي الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِير } [سورة الحج:6].
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِير } [سورة الحج:62].
وجاء في السنة في استفتاح النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته من قيام الليل:
فعن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما قال "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يتهجد قال اللهم لك الحمد أنت قيم السماوات والأرض ومن -وفيه-أنت الحق ووعدك الحق ولقاؤك حق وقولك حق والجنة حق والنار حق والنبيون حق ومحمد صلى الله عليه وسلم حق والساعة حق" متفق عليه.
• معناه في اللغة:
الحق نقيض الباطل، وما ثبت ووجب.
• معناه في حق الله:
المتحقق كونه ووجوده، لا شك فيه، ولا يزول، وحق في ربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، وأفعاله كلها حق، وقوله ووعده وأمره وقضاؤه، لا باطل فيها ولا عبث ولا ظلم ولا هوى.
- قال الخطابي في شأن الدعاء:
"الحق: هو المتحقق كونه ووجوده وكل شيء صح وجوده وكونه فهو حق، ومنه قول الله -سبحانه -: (الحاقة. ما الحاقة) معناه: -والله أعلم- الكائنة حقا لا شك في كونها، ولا مدفع لوقوعها، ويقال: الجنة حق والنار حق والساعة حق. يراد ان هذه الأشياء كائنة لا محالة".اهـ
- وقال الزجاج في تفسير أسماء الله:
"الحق يقال حققت الشيء أحقه حقا إذا تيقنت كونه ووجوده وفلان محق أي صاحب حق ومنه قولهم شهدت بأن الجنة حق والنار حق"اهـ
- وقال الزجاجي في اشتقاق أسماء الله
"الحق: الله عز وجل حق وكل معبود دونه باطل، والحق: نقيض الباطل، ويقال حق الشيء يحق حقًا: تأويله وجب يجب وجوبًا، فالله عز وجل حق وكل شيء من عنده حق وكل ما عاد إليه حق، وكل ما أمر به ونهي عنه حق على العباد امتثاله أي واجب ذلك عليهم فالله الحق أي هو الحق وما عبد دونه باطل، والله عز وجل الحق أي ذو الحق في أمره، ونهيه، ووعده، ووعيده، وجميع ما أنزله على لسان رسله وأنبيائه" اهـ
- وقال ابن الأثير في النهاية:
"في أسماء الله تعالى «الحق» هو الموجود حقيقة المتحقق وجوده وإلهيته.
والحق: ضد الباطل."اهـ
- وقال قوام السنة الأصبهاني في الحجة:
"ومن أسمائه تعالى: الحق: وهو المتحقق كونه ووجوده وكل شيء صح وجوده وكونه فهو حق ومنه قوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة} أي الكائنة حقا لا شك في كونها ولا مدفع لوقوعها"اهـ
- وقال السعدي تفسيره:
"الحق: في ذاته وصفاته، فهو واجب الوجود، كامل الصفات والنعوت، وجوده من لوازم ذاته، ولا وجود لشيء من الأشياء إلا به. فهو الذي لم يزل ولا يزال بالجلال والجمال والكمال موصوفا، ولم يزل ولا يزال بالإحسان معروفا.
فقوله حق، وفعله حق، ولقاؤه حق، ورسله حق، وكتبه حق، ودينه هو الحق، وعبادته وحده لا شريك له هي الحق، وكل شيء ينسب إليه فهو حق. {ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير}
{وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} {فماذا بعد الحق إلا الضلال} {وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا}"اهـ
• قلت في منظومة روضة الموحد:
والحـقّ أي مُـحقَّـقُ الوجودِ
والحقّ ضدُّ الباطل المردودِ
فـكـل مـا عـدا الإلــهِ الحــقِّ
فبـاطـلٌ لا مثـله فـي الخلقِ
• توحيد الله حق ودعاء غيره من الباطل:
قال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٦٢) ﴾
قال ابن جرير:
"يعني تعالى ذكره بقوله ﴿ذلكَ﴾ هذا الفعل الذي فعلت من إيلاجي الليل في النهار، وإيلاجي النهار في الليل، لأني أنا الحقّ الذي لا مثل لي ولا شريك ولا ندّ، وأن الذي يدعوه هؤلاء المشركون إلها من دونه هو الباطل الذي لا يقدر على صنعة شيء، بل هو المصنوع، يقول لهم تعالى ذكره: أفتتركون أيها الجهال عبادة من منه النفع وبيده الضر وهو القادر على كل شيء وكلّ شيء دونه، وتعبدون الباطل الذي لا تنفعكم عبادته."اهـ
وقال ابن كثير:
"ولما بين أنه المتصرف في الوجود، الحاكم الذي لا معقب لحكمه، قال: ﴿ذلك بأن الله هو الحق﴾ أي: الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له؛ لأنه ذو السلطان العظيم، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، وكل شيء فقير إليه، ذليل لديه، ﴿وأن ما يدعون من دونه هو الباطل﴾ أي: من الأصنام والأنداد والأوثان، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل؛ لأنه لا يملك ضرا ولا نفعا."اهـ
قال عبد الرحمن بن حسن في رسالته بيان كلمة التوحيد:
"فإن كلّ مألوه معبود ولا بد أن يكون حقا أو باطلا، فإن كان هو الله فهو الحق سبحانه كما في حديث الاستفتاح الذي رواه البخاري وغيره: "ولك الحمد، أنت الحق، ووعدك حق". وإن كان المعبود غيره فهو باطل بنص القرآن. والقرآن كله يدل على أن الله هو الحق وأن ما يدعى من دونه فهو باطل".اهـ
• الحق وومذهب الربوبيين المنكرين للنبوات وتدبير الخالق للأرض والسموات ومن فيهن:
- قال ابن القيم في بدائع الفوائد:
"ومن نظر في الموجودات ببصيرة قلبه رآها كالأشخاص الشاهدة الناطقة بذلك بل شهادتها أتم من شهادة الخبر المجرد لأنها شهادة حال لا يقبل كذبا فلا يتأمل العاقل المستبصر مخلوقا حق تأمله إلا وجده دالا على فاطره وبارئه وعلى وحدانيته وعلى كمال صفاته وأسمائه وعلى صدق رسله وعلى أن لقاءه حق لا ريب فيه وهذه طريقة القرآن في إرشاده الخلق إلى الاستدلال بأصناف المخلوقات وأحوالها على إثبات الصانع وعلى التوحيد والمعاد والنبوات فمرة يخبر أنه لم يخلق خلقه باطلا ولا عبثا ومرة يخبر أنه خلقهم بالحق ومرة يخبرهم وينبههم على وجوه الاعتبار والاستدلال بها على صدق ما أخبرت به رسله حتى يبين لهم أن الرسل إنما جاؤوهم بما يشاهدون أدلة صدقة وبما لو تأملوه لرأوه مركوزا في فطرهم مستقرا في عقولهم وأن ما يشاهدونه من مخلوقاته شاهد بما أخبرت به رسله عنه من أسمائه وصفاته وتوحيده ولقائه ووجود ملائكته وهذا باب عظيم من أبواب الإيمان إنما يفتحه الله على من سبقت له منه سابقة السعادة وهذا أشرف علم يناله العبد في هذه الدار.... فهذا كله من الحق الذي خلقه به السماوات والأرض وما بينهما وهو حق لوجود هذه المخلوقات مسطور في صفحاتها يقرؤه كل موفق كاتب وغير كاتب كما قيل:
تأمل سطور الكـائنـات فإنـها
من الملأ الأعلى إليك رسائل
وقد خط فيها لو تأملت خطها
ألا كل شيء ما خلا الله بـاطـل
وأما الحق الذي هو غاية خلقها فهو غاية تراد من العباد وغاية تراد بهم فالتي تراد منهم أن يعرفوا الله تعالى وصفات كماله عز وجل وأن يعبدوه لا يشركوا به شيئا فيكون هو وحده إلههم ومعبودهم ومطاعهم ومحبوبهم قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاَطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً} فأخبر أنه خلق العالم ليعرف عباده كمال قدرته وإحاطة علمه وذلك يستلزم معرفته ومعرفة أسمائه وصفاته وتوحيده وقال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ} فهذه الغاية هي المرادة من العباد وهي أن يعرفوا ربهم ويعبدوه وحده وأما الغاية المرادة بهم فهي الجزاء بالعدل والفضل والثواب والعقاب قال تعالى: {وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} قال تعالى: {إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} وقال تعالى: {لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ} قال تعالى: {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلاّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} فتأمل الآن كيف أشتمل خلق السموات والأرض وما بينهما على الحق أولا وآخرا ووسطا وأنها خلقت بالحق وللحق وشاهدة بالحق وقد أنكر تعالى على من زعم خلاف ذلك فقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} ثم نزه نفسه عن هذا الحسبان المضاد لحكمته وعلمه وحمده فقال فتعالى الله الملك الحق وتأمل ما في هذين الاسمين وهما الملك الحق من إبطال هذا الحسبان الذي ظنه أعداؤه إذ هو مناف لكمال ملكه ولكونه الحق إذ الملك الحق هو الذي يكون له الأمر والنهي فيتصرف في خلقه بقوله وأمره وهذا هو الفرق بين الملك والمالك إذ المالك هو المتصرف بفعله والملك هو المتصرف بفعله وأمره والرب تعالى مالك الملك فهو المتصرف بفعله وأمره فمن ظن أنه خلق خلقه عبثا لم يأمرهم ولم ينههم فقد طعن في ملكه ولم يقدره حق قدره كما قال تعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ} فمن جحد شرع الله وأمره ونهيه وجعل الخلق بمنزلة الأنعام المهملة فقد طعن في ملك الله ولم يقدره حق قدره وكذلك كونه تعالى إله الخلق يقتضي كمال ذاته وصفاته وأسمائه ووقوع أفعاله على أكمل الوجوه وأتمها فكما أن ذاته الحق فقوله الحق ووعده الحق وأمره الحق وأفعاله كلها حق وجزاؤه المستلزم لشرعه ودينه ولليوم الآخر حق فمن أنكر شيئا من ذلك فما وصف الله بأنه الحق المطلق من كل وجه وبكل اعتبار فكونه حقا يستلزم شرعه ودينه وثوابه وعقابه فكيف يظن بالملك الحق أن يخلق خلقه عبثا وأن يتركهم سدى لا يأمرهم ولا ينهاهم ولا يثيبهم ولا يعاقبهم كما قال تعالى: {أَيَحْسَبُ الإنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً}... وتأمل كيف لما زعم أعداؤه الكافرون أنه لم يأمرهم ولم ينههم على ألسنة رسله وأنه لا يبعثهم للثواب والعقاب كيف كان هذا الزعم منهم قولا بأن خلق السموات والأرض باطل فقال تعالى: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} فلما ظن أعداؤه أنه لم يرسل إليهم رسولا ولم يجعل لهم أجلا للقائه كان ذلك ظنا منهم أنه خلق خلقه باطلا ولهذا أثنى تعالى على عباده المتفكرين في مخلوقاته بأن أوصلهم فكرهم فيها إلى شهادتهم بأنه تعالى لم يخلقها باطلا وأنهم لما علموا ذلك وشهدوا به علموا أن خلقها يستلزم أمره ونهيه وثوابه وعقابه فذكروا في دعائهم هذين الأمرين فقالوا {رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ} فلما علموا أن خلق السموات والأرض يستلزم الثواب والعقاب تعوذوا بالله من عقابه ثم ذكروا الإيمان الذي أوقعهم عليه فكرهم في خلق السموات والأرض فقالوا {رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا} فكانت ثمرة فكرهم في خلق السموات والأرض الإقرار به تعالى وبوحدانيته وبدينه وبرسله وبثوابه وعقابه فتوسلوا إليه بإيمانهم الذي هو من أعظم فضله عليهم إلى مغفرة ذنوبهم وتكفير سيئاتهم وإدخالهم مع الأبرار إلى جنته التي وعدهموها وذلك تمام نعمته عليهم فتوسلوا بإنعامه عليهم أولا إلى إنعامه عليهم آخرا وتلك وسيلة بطاعته إلى كرامته وهو إحدى الوسائل إليه ..."اهـ كلام ابن القيم
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق