المبين




سلسلة: خلاصة المعنى للأسماء الحسنى (6)

الحمد لله المبين الذي أظهر لنا أدلة وجوده وتوحيده، وبين لنا تفاصيل دينه وشريعته، والصلاة والسلام على رسوله المبين، الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك... أما بعد: -
ففي هذا المنشور وضمن معنا اسم من أسماء الله الحسنى وهو المبين(6)، وهو لم يرِد إلا مرة واحدة في القرآن في قول الله تعالى: { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ ( ٢٥ )  } [سورة النور]
 ولم يصح وروده في السنة النبوية، ولكنه جاء ضمن الأسماء المدرجة عند الترمذي وغيره، ولكن لا يصح رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هي مدرجة من بعض رواة الحديث.

•  معنى الاسم لغة:
من البيان والوضوح والظهور.
قال في لسان العرب:" بان الشيء بيانا إذا اتضح، فهو بين، وأبان الشيء فهو مبين"اهـ
قال ابن عطية في تفسيره:
"والمبين: اسم فاعل من أبان الذي يستعمل متعديا بمعنى أظهر على أصل معنى إفادة الهمزة التعدية، ويستعمل بمعنى بان، أي ظهر على اعتبار الهمزة زائدة"اهـ
قال الزجاجي في اشتقاق الأسماء:" المبين: اسم الفاعل من أبان يبين فهو مبين إذا أظهر وبين إما قولاً وإما فعلاً"اهـ

•  معنى الاسم في حق الله تعالى:
يدل على معنيين كلاهما حق، مبيِّن وبيِّن.

-  قلت في منظومة روضة الموحد:
وهو المبين واضحٌ وبيّنُ * وأنّـــه لشــرعــــه مــــبيّنُ

 قال الأصبهاني في الحجة:
"ومعناه المبين أمره، وقيل البين الربوبية والملكوت، يقال: أبان الشيء بمعنى تبين، وقيل معناه: أبان للخلق ما احتاجوا إليه"اهـ

ويكون المعنيان أعظم وضوحا وجلاءً في الآخرة، حين يصير الغيب شهادة، والبصر حديدا، وتكشف فيه الحقائق، ويقول فيه الخالق: أنا الملك أين ملوك الأرض، ثم يوفيهم دينهم الحق، أي يحاسبهم ويجازيهم على أعمالهم الجزاء الحق بالعدل والإنصاف، ويعلمون هناك حق المعرفة عيانا بيانا أن الله هو الحق المبين، يزداد علم المؤمنين به من علم اليقين إلى عين اليقين وحقه، ويعلم الكفار ما كانوا يجحدونه، فترتفع الشكوك في ذلك اليوم، ويحصل العلم الضروري لكل أحد بما أخبرت به الرسل، ونُصبت عليه الأدلة، ولا يفوز هناك إلا من آمن في الدنيا بما بيّن الله وأوضح لهم.

والمعنيان في اسم المبين تفصيلا هما:
1-  المبين: الذي يبين لعباده الحق، ويظهره لهم، يوضح لهم السراط المستقيم، وما يحتاجون إليه من مصالحهم، الذي أبان لهم طريق الحق من الباطل، والهدى من الضلالة، والحلال من الحرام، وسيُظهر لهم يوم القيامة حقائق ما ذكره لهم في الدنيا.
قال الزجاجي في اشتقاق الأسماء: "فالله تبارك وتعالى المبين لعباده سبيل الرشاد، والموضح لهم الأعمال الموجبة لثوابه والأعمال الموجبة لعقابه، والمبين لهم ما يأتونه ويذرونه"اهـ
وقد فعل سبحانه بإنزال كتابه، وإرسال رسوله، وسمى كلاهما بالمبين، كما قال تعالى:
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا ( ١٧٤ )  } [سورة النساء]
. وقال: { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ( ٤٩ )  } [سورة الحج]

وأن بلاغ رسله مبين كما قال: { وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ( ٩٢ )  } [سورة المائدة]
وحذر من طريق الضلالة، وقائدها الأعظم الشيطان وبيّن لنا أنه عدونا المبين فقال: { { وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ( ٦٢ )  } [سورة الزخرف]
وذكر لنا أن الكافرين أتباعه من أعدائنا البينين فقال: {إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا ( ١٠١ )  } [سورة النساء]

وبين لنا شرعه كله بيانا شافيا كما قال: { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ( ٢٤٢ )  } [سورة البقرة]
 وقال: { وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ( ١١٥ )  } [سورة التوبة]
وأخيرا أكد لنا أن ما كان عليه رسولنا صلى الله عليه وسلم هو الحق المبين فنقتدي به ونثبت عليه فقال لرسوله صلى الله عليه وسلم: { فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ ( ٧٩ )  } [سورة النمل]

2-  المبين: البيّن أمره، الظاهر شأنه، في وجوده ووحدانيته، وكمال صفاته سبحانه وتعالى، فلا يخفى أمره على أهل العقول المستقيمة، والفطر السليمة، لأدلة وجوده ووحدانيته في الربوبية والألوهية، المتضافرة والمتكاملة، الفطرية منها والعقلية والسمعية.
 قال ابن تيمية في درء التعارض: "إنه الحق المبين لا حق أحق منه ولا شيء أبين منه"اهـ
وقال الخطابي في شأن الدعاء:" ومعناه: البين أمره في الوحدانية، وأنه لا شريك له، يقال: بان الشيء وأبان، وبين، واستبان. بمعنى واحد"اهـ
قال الحليمي: "هو الذي لا يخفى ولا ينكتم، والبارئ جل ثناؤه ليس بخاف ولا منكتم، لأنه له من الأفعال الدالة عليه، ما يستحيل معها أن يخفى فلا يوقف عليه ولا يُدرى"اهـ
-  ومن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى: { قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } [سورة إبراهيم]
.فاستحث فطرتهم أولا على وجوده وتوحيده، ثم نبه عقلهم ثانيا بمدأ السببية على وجوده، وبدليل الإلزام بالربوبية على توحيد الأوهية لمن آمن بربوبيته، فالسموات وانتظامها لا بد لها من خالق لها بديع، لا يعقل أن تكون من غير خالق عظيم، وأوضح ذلك جليا في قوله: { أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ ( ٣٥ ) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَّا يُوقِنُونَ ( ٣٦ )  } [سورة الطور]
قال البغوي في تفسيرها:
"ومعناه: أخلقوا من غير شيء خلقهم فوجدوا بلا خالق؟ وذلك مما لا يجوز أن يكون، لأن تعلق الخلق بالخالق من ضرورة الاسم، فإن أنكروا الخالق لم يجز أن يوجدوا بلا خالق، ﴿أم هم الخالقون﴾ لأنفسهم وذلك في البطلان أشد، لأن ما لا وجود له كيف يخلق؟
فإذا بطل الوجهان قامت الحجة عليهم بأن لهم خالقا فليؤمنوا به، ذكر هذا المعنى أبو سليمان الخطابي"اهـ
-  ومعنى ذلك إجمالا: أن هذا الحدوث للعالم:
إما أن يكون بسبب فعل فاعل، أو أنه جاء من غير سبب، والثاني باطل قطعا لمناقضته الضرورة العقلية، ومبدأ السببية.
فتعين أن يكون بفاعل.
وهذا الفاعل إما أن يكون هو الكون نفسه، أو فاعل غيره، والأول باطل قطعا، لأنه يستحيل أن يتقدم الشي على نفسه ليوجده، ولا يتصور أن يحدِث الشي إلا من كان موجودا قبله، فتعين أن يكون الفاعل غيره.
وهذا الغير، إما أن يكون مسبوقا بعدم -لم يكن شيئا فصار موجودا- وإما أن يكون وجوده غير مسبوق بعدم، بل هو أولي أزلي.
والأول باطل لأنه يستلزم التسلسل في الفاعلين، بمعنى أن هذا الخالق الذي كان مسبوقا بعدم، كان قبله خالق خلقه، وهكذا إلى مالا نهاية، وهذا باطل قطعا وهو ممتنع من حيث تسلسل الفاعلين، وأن الخالق لا يحتاج إلى خالق.
فتعين الثاني وهو أن الفاعل هو غير الشي المخلوق ووجوده غير مسبوق بعدم وهو الله سبحانه وتعالى.
-  فمن المحال الشديد، والممتنع الأكيد، والخرافة في أعظم صورها: القول بعدم وجود الله الخالق سبحانه وتعالى عما يصفون.
وكيف يصح في الأذهان شيءٌ * إذا احتاج النهار إلى دليلِ

•  هذا في بيان وجوده، أما دليل تفرده بالربوبية، أي بالملك والخلق والتدبير، فبين ذلك في قوله تعالى:
{{ مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ ( ٩١ )  } [سورة المؤمنون]
قال ابن كثير في تفسيرها:
"أي: لو قدر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما يخلق، فما كان ينتظم الوجود. والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض، في غاية الكمال، ﴿ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت﴾ [الملك: ٣] ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض"اهـ
 وفي بيان ذلك يقال في الآية برهانان على عدم تعدد الخالق وهما:
- ذهاب كل إله بما خلق.
- وعلوّ بعضهم على بعض.
 لأنه لو كان هناك خالقان لهما خلق وفعل، فإنّ أحدهما لا يرتضي شركة الآخر معه؛ لأنها نقص وحاجة، وتستلزم عجز كل منهما؛ لأنّ أحدهما إن لم يكن قادرًا إلا بإعانة الآخر لزم عجزه حال الانفراد، وامتنع أن يكون قادرًا حال الاجتماع؛ لأنّه ليس بقادرٍ حتى يجعله الآخر قادرًا.
وإن كان كلٌّ منهما قادرًا حال انفراده لزم أن يمكن لأحدهما أن يفعل فعلًا لا يشاركه الآخر فيه، وحينئذٍ لا بدّ من أحد أمور ثلاثة:-
- أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه وينفرد به، ولا يرضى أن يُضاف خلقه وإنعامه إلى غيره.
- أن يعلو بعضهم على بعض ويطلب قهر الآخر؛ لأنّ القويّ لا يرضى أن يعلوه الضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون خالقًا.
- أن يكون كلهم تحت قهر خالقٍ واحدٍ يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويدبرهم ولا يدبرونه، فيكون وحده هو الخالق الحقّ، وهُم العبيد المربوبون المقهورون وهو الواقع.

-  هذا في بيان توحيد ربوبيته، وأما توحيد الألوهية، فقد أكثر الله فيه من الأدلة العقلية، وضرب الأمثلة، لأن الشرك فيه أكثر وقوعا، وأعظم انتشارا.
ولقد تنوعت طرق القرآن في بيان أحقية الله في أن يفرد بالعبادة، ولكن سنقتصر على أشهر طريقين تكررا في القرآن كثيرا:
1-   يلزم من الإقرار بتوحيد الربوبية في الملك والخلق والتدبير، الإقرار بتوحيد الألوهية، وأن لا يعبد غير خالقه ومالكه والمدبر أمره وأمر الكون.
فإذا كان وحده الخالق لكم، والمدبر لأموركم، الذي بيده النفع والضر، لا رزق ولا نعمة إلا منه، فلماذا تعبدون غيره، وترومون الوصول من غير بابه، والآيات في ذلك كثيرة منها قوله تعالى:
{قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ ( ٣١ ) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ( ٣٢ )} [سورة يونس]
وقوله: {قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٥٩ ) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ ( ٦٠ ) أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ( ٦١ ) أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ ( ٦٢ ) أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٦٣ ) أَمَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ٦٤ )} [سورة النمل]
وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ( ٢١ ) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ ( ٢٢ )} [سورة البقرة]
قال ابن كثير في تفسيرها:
"شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عبيده، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة، …ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره؛ ولهذا قال: ﴿فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون﴾ وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا، وهو خلقك" الحديث"اهـ
وقال ابن القيم في الصواعق المرسلة عند هذه الآية: { وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ( ٢٢ )  } [سورة يس]
"ونبه على أن عبادة العبد لمن فطره أمر واجب في العقول، مستهجن تركها، قبيح، الإخلال بها، فإن خلقه لعبده أصل إنعامه عليه، ونعمه كلها بعد تابعة لإيجاده وخلقه"اهـ
وأخيرا قال الشنقيطي في أضواء البيان على آية الأحقاف: "مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ":
"وبذلك تعلم أنه ما خلق السماوات والأرض وما بينهما إلا خلقا متلبسا بأعظم الحق، الذي هو إقامة البرهان القاطع، على توحيده - جل وعلا - ومن كثرة الآيات القرآنية الدالة على إقامة هذا البرهان القاطع المذكور على توحيده - جل وعلا - علم من استقراء القرآن أن العلامة الفارقة من يستحق العبادة، وبين من لا يستحقها، هي كونه خالقا لغيره، فمن كان خالقا لغيره، فهو المعبود بحق، ومن كان لا يقدر على خلق شيء، فهو مخلوق محتاج، لا يصح أن يعبد بحال، فالآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا"اهـ
وفي الحديث أن الله أمر يحيى بن زكريا أن يخبر قومه بكلمات وفيها:
"قَالَ -يحيى-: إِنَّ اللَّهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ، وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ : أَوَّلُهُنَّ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَإِنَّ مَثَلَ مَنْ أَشْرَكَ بِاللَّهِ كَمَثَلِ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِذَهَبٍ أَوْ وَرِقٍ ، فَقَالَ : هَذِهِ دَارِي، وَهَذَا عَمَلِي، فَاعْمَلْ وَأَدِّ إِلَيَّ. فَكَانَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ ؟" رواه الترمذي وقال: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ غَرِيبٌ

2-   بيان حال ما يدعونهم ويعبدونهم من دون الله، بصفة تبين عدم استحقاقهم للعبادة.
بأنهم عاجزين وغير خالقين ولا مالكين للنفع والضر، وأنه لا يستحق العبادة إلا المنفرد بصفات الكمال والجلال والعظمة وهو الله وحده.
{فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ١٩٠ ) أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( ١٩١ ) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ( ١٩٢ ) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ( ١٩٣ ) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ( ١٩٤ )} [سورة الأعراف]
وقال: {وَاتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا ( ٣ )} [سورة الفرقان]
وقال: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ( ١٩ ) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ ( ٢٠ ) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ( ٢١ ) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النحل]
وقال: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَفْعَلُ مِن ذَلِكُم مِّن شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ( ٤٠ )} [سورة الروم]
قال الطبري في تفسيرها:
"يقول تعالى ذكره: هل من آلهتكم وأوثانكم التي تجعلونهم لله في عبادتكم إياه شركاء من يفعل من ذلكم من شيء، فيخلق، أو يرزق، أو يميت، أو ينشر، وهذا من الله تقريع لهؤلاء المشركين. وإنما معنى الكلام أن شركاءهم لا تفعل شيئا من ذلك، فكيف يعبد من دون الله من لا يفعل شيئا من ذلك، ثم برأ نفسه تعالى ذكره عن الفرية التي افتراها هؤلاء المشركون عليه بزعمهم أن آلهتهم له شركاء، فقال جلّ ثناؤه ﴿سبحانه﴾ أي تنزيها لله وتبرئة ﴿وَتَعالى﴾ يقول: وعلوّا له ﴿عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ يقول: عن شرك هؤلاء المشركين به."اهـ
 وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ ( ٢٢ ) وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ( ٢٣ )} [سورة سبأ]
قال ابن القيم في الصواعق المرسلة على آيتي سبأ:
"فتأمل كيف أخذت هذه الآية على المشركين بمجامع الطرق التي دخلوا منها إلى الشرك وسدتها عليهم أحكم سد وأبلغه، فإن العابد إنما يتعلق بالمعبود لما يرجو من نفعه، وإلا فلو لم يرج منه منفعة لم يتعلق قلبه به، وحينئذ فلابد أن يكون المعبود مالكاً للأسباب التي ينفع بها عباده، أو شريكاً لمالكها أو ظهيراً أو وزيراً ومعاوناً له أو وجيهاً ذا حرمة وقدر يشفع عنده، فإذا انتفت هذه الأمور الأربعة من كل وجه وبطلت انتفت أسباب الشرك وانقطعت مواده، فنفى سبحانه عن آلهتهم أن تملك مثقال ذرة في السموات والأرض، فقد يقول المشرك: هي شريكة لمالك الحق فنفى شركتها له، فيقول إلا الشفاعة، فنفاها عن آلهتهم وأخبر أنه لا يشفع عنده أحد إلا بإذنه، فهو الذي يأذن للشافع، فإن لم يأذن له لم يتقدم بالشفاعة بين يديه، كما يكون في حق المخلوقين، فإن المشفوع عنده يحتاج إلى الشافع ومعاونته له فيقبل شفاعته وإن لم يأذن له فيها، وأما من كل ما سواه فقير إليه بذاته وهو الغني بذاته عن كل ما سواه فكيف يشفع عنده أحد بدون إذنه!"اهـ

-  فإذا عُلم مع ذلك كمال الله وقدرته المطلقة التي ذكرها الله كثيرا في كتابه تبين الفرق الشاسع بين المخلوق العاجز المحتاج، والخالق القدير الغني، وعلم من هو المستحق للعبادة، ومن الآيات التي تدل على كمال الله تعالى آية الكرسي وسورة الإخلاص والآيات التي تدل على ملكه وتدبيره وقوته إلخ... وهي كثيرة لا تحصى
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى:
"والله سبحانه لم يذكر هذه النصوص [يعني آيات الصفات] لمجرد تقرير صفات الكمال له بل ذكرها لبيان أنه المستحق للعبادة دون ما سواه فأفاد الأصلين اللذين بهما يتم التوحيد: وهما إثبات صفات الكمال ردا على أهل التعطيل وبيان أنه المستحق للعبادة لا إله إلا هو ردا على المشركين. والشرك في العالم أكثر من التعطيل"اهـ
فمن عرف المخلوق على حقيقته، والخالق في عظمته، عرف التوحيد لا محالة.

•  وقد أجمل السعدي في تفسيره لآية آل عمران في شهادة الله لنفسه بالتوحيد أدلة توحيد الألوهية العقلية فقال:
"وأما الأدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للأمور فقد أرشد القرآن إليها ونبه على كثير منها، فمن أعظمها: الاعتراف بربوبية الله، فإن من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع الأمور أنتج له ذلك أنه هو المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلا له، ولما كان هذا من أوضح الأشياء وأعظمها أكثر الله تعالى من الاستدلال به في كتابه. ومن الأدلة العقلية على أن الله هو الذي يؤله دون غيره انفراده بالنعم ودفع النقم، فإن من عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله، وأنه ما من نقمة ولا شدة ولا كربة إلا وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق لا يملك لنفسه -فضلا عن غيره- جلب نعمة ولا دفع نقمة، تيقن أن عبودية ما سوى الله من أبطل الباطل وأن العبودية لا تنبغي إلا لمن انفرد بجلب المصالح ودفع المضار، فلهذا أكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا الدليل جدا، ومن الأدلة العقلية أيضا على ذلك: ما أخبر به تعالى عن المعبودات التي عبدت من دونه، بأنها لا تملك نفعا ولا ضرا، ولا تنصر غيرها ولا تنصر نفسها، وسلبها الأسماع والأبصار، وأنها على فرض سماعها لا تغني شيئا، وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص، وما أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والأفعال الجميلة، والقدرة والقهر، وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالأدلة السمعية والعقلية، فمن عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة لا تليق ولا تحسن إلا بالرب العظيم الذي له الكمال كله، والمجد كله، والحمد كله، والقدرة كلها، والكبرياء كلها، لا بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين لا يعقلون"اهـ

- وأنت كما ترى أننا اقتصرنا فقط على بعض الآيات النقلية العقلية التي تبين وجود الله ووحدانيته، ولم نذكر أدلة الفطرة ولا السمعية المحضة، وهذه السمعية صدقها يرجع إلى أدلة عقلية في صدق الرسول وحفظ كتابه، ولكن من باب الاختصار تركنا الكثير، والله المستعان

•  ومضة:
بل لو تفكر الإنسان في نفسه فقط لوصل إلى الحقيقة، قال ابن القيم في التبيان:
"{وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} لما كان أقرب الأشياء إلى الإنسان نفسه دعاه خالقه وبارئه ومصوره وفاطره من قطرة ماء إلى التبصر والتفكر في نفسه فإذا تفكر الانسان في نفسه استنارت له آيات الربوبية وسطعت له أنوار اليقين واضمحلت عنه غمرات الشك والريب وانقشعت عنه ظلمات الجهل فإنه إذا نظر في نفسه وجد آثار التدبير فيه قائمات وأدلة التوحيد على ربه ناطقات شاهدة لمدبره دالة عليه مرشدة إليه...."اهـ

-  وأحسن من قال:
فَيا عَجَباً كَيفَ يُعصى الإِلَهُ * أَم كَيفَ يَجحَدُهُ الجاحِدُ
وَفي كُلِّ شَيءٍ لَهُ آيَةٌ * تَدُلُّ عَلى أَنَّهُ واحِدُ
وَلِلَّهِ في كُلِّ تَحريكَةٍ * وَتَسكينَةٍ أَبَداً شاهِدُ

والحمد لله رب العالمين.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

دليل الخلق والإيجاد

محالات العقول ومحاراتها

مقدمة جواب شبهة التوسل(١)

وجود الأدلة العقلية في الأدلة النقلية

جواب شبهة التوسل النقلية(٢)