هل يعبد المسلمون الكعبة
[ هل المسلمون يعبدون الكعبة]
بسم الله الرحمن الرحيم
من شبهات الملاحدة المغفلين، والنصارى الضالين، التي تثار دائما، وتزداد في شهر ذي الحجة ورمضان خصوصا إذا أغاظهم اجتماع المسلمين وعبادتهم لله رب العالمين عند المسجد الحرام.
فيقولون إن الإسلام يدعوا إلى عبادة الأوثان، ألا ترون الكعبة والطواف حولها، والسجود لها، وهذا السعي بين جبلي الصفا والمروة، وهذه الجمرات ورميها …
• والجواب:
أن هذا الإيراد في الحقيقة ليس بشبهة، وإنما هو من الجهل المركّب، والغباء المكّعب.
فمورد هذه الشبهة لا يعرف ما التوحيد ولا الشرك وما معنى العبادة.
ولكي يتضح الطريق لكل ذي عينين، ويبصر بهما ما له وما عليه، نقول:
1- التوحيد هو عبادة الله وحده لا شريك له بما أمرنا، والشرك هو صرف بعض أنواع العبادات لغير الله.
والعبادة هي كمال الخضوع والانقياد مع كمال المحبة بالنسبة للعابد، وهي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه بالنسبة للعبادة نفسها.
فالطواف حول الكعبة والسجود إليها عبادة لله، لأن الله أمر بها، ونفعل ذلك بكمال الخضوع والمحبة لله لا للكعبة، فأين الوثنية من ذلك.
فلا يوجد مسلم يطوف لذات الكعبة ولأجلها تقربا إليها، ولا يسجد لها عبادة، ولا يعتقد أنها تنفع أو تضر ولا يسألها مغفرة الذنوب، وهداية القلوب، وكشف الكروب، ولا إجابة الدعوات، وإغاثة اللهفات، كما يسأل رب الأرض والسموات.
ومن فعل ذلك فهو ليس بمسلم، ولا يحسب فعله على الإسلام، بل الإسلام بريء منه ومن فعله.
فالمسلم لا يعبد هناك إلا الله، بالطريقة التي شرعها له سبحانه، كما قال تعالى:{ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ ( ٣ )} [قريش]، فالعبادة لربها لا لها، فيطوف لله امتثالا لأمره {وليطوفوا بالبيت العتيق ( ٢٩ )} [سورة الحج] ويتجه في صلاته إليها امتثالا لله تعالى في قوله: { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ } [سورة البقرة]، فالخلق خلقه، والأمر أمره، والعبادة له، فالطواف لله والسجود له، والكعبة مجرد مكان وجِهة لا يصرف لها ذرة عبادة.
2- ويقال أيضا إن الحال مثل شرع الصلاة في المساجد، فلا يقول عاقل إنكم تعبدون المساجد، وتسجدون وتركعون لها، بل نعبد الله وحده لا شريك له في تلك المساجد، بل جعلت لنا الأرض كلها مسجدا وطهورا، فهل إذا صلينا في بقعة من الأرض وسجدنا لله هناك نكون قد عبدنا تلك البقعة من الأرض.
فالأمر مجرد امتثال لله بالطريقة التي يريدنا أن نعبده بها، ولذا جاء عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ جَاءَ إِلَى الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ فَقَبَّلَهُ، فَقَالَ : إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. متفق عليه.
وتلقت الأمة كلها هذا الأثر عن عمر من غير نكير ولا إشكال، لأن الأمر واضح والحق أبلج ولكن الملاحدة وأشباههم يتعامون قصدا حتى يتساقطوا في نار جهنم.
3- ومما يزيد المسألة جلاء أن المعلوم لكل ذي علم أن الإسلام جاء بالتوحيد ومحاربة الوثنية، بجعل العبادة لله وحده وهذا هو معنى لا إله إلا الله، أي لا معبود حق إلا الله وأن كل عبادة صرفت لغيره فهي باطلة وصرفت لمعبود باطل كما قال سبحانه: { ذلك بأن الله هو الحق وأن ما يدعون من دونه هو الباطل وأن الله هو العلي الكبير ( ٦٢ ) } [سورة الحج]، وعن هذا استكبر المشركون وتعجبوا أن لا يكون بين الله وعباده وسائط يتقربون إليها بالعبادات، فتوصلهم إلى الخالق فقالوا كما حكى الله عنهم: {أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب ( ٥ ) } [سورة ص]، وقال عن سبب عبادتهم لها: {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [سورة الزمر]، والكعبة لا شك أنها مما دون الله، وداخلة في النهي عن عبادتها مع الله، ولو جاء الإسلام بعبادتها، لا احتج بها المشركون على المسلمين، ولكن الواقع وحقيقة الحال أن مشركي قريش كانوا أعلم بمعنى العبادة والتوحيد والشرك من الملاحدة والنصارى.
4- ويتجلى الأمر أكثر بأن الإسلام قد أزال مظاهر الوثنية التي كانت حول الكعبة، فصارت العبادة هناك لله وحده بعد ما كانت الوثنية ظاهرة، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: دَخَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ وَحَوْلَ الْبَيْتِ سِتُّونَ وَثَلَاثُمِائَةِ نُصُبٍ، فَجَعَلَ يَطْعُنُهَا بِعُودٍ فِي يَدِهِ، وَيَقُولُ: " {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، {جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} ". متفق عليه.
وكانت لهم تلبية شركية فأزيلت بالإسلام فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَقُولُونَ: لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ، قَالَ: فَيَقُولُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَيْلَكُمْ، قَدْ قَدْ ". فَيَقُولُونَ: إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ، تَمْلِكُهُ وَمَا مَلَكَ، يَقُولُونَ هَذَا وَهُمْ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ. رواه مسلم.
بل ومنع النبي صلى لله عليه وسلم المشركين من الحج بعد فتح مكة فعن أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: بَعَثَنِي أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ فِي الْحَجَّةِ الَّتِي أَمَّرَهُ عَلَيْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ حَجَّةِ الْوَدَاعِ فِي رَهْطٍ يُؤَذِّنُونَ فِي النَّاسِ يَوْمَ النَّحْرِ: لَا يَحُجُّ بَعْدَ الْعَامِ مُشْرِكٌ، وَلَا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ عُرْيَانٌ. متفق عليه.
بل ومنع الله دخولهم الحرم لنجاستهم المعنوية فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا( ٢٨ )} [سورة التوبة]
بل وأوصى النبي ﷺ بإخراج المشركين من جزيرة العرب تعظيما لحرمة مكة من أهل الشرك فعن ابن عباس قال عن وصية النبي ﷺ: " وَأَوْصَى عِنْدَ مَوْتِهِ بِثَلَاثٍ: " أَخْرِجُوا الْمُشْرِكِينَ مِنْ جَزِيرَةِ الْعَرَبِ..." الحديث متفق عليه.
ثم بعد هذا كله يجيء متبجح جاهل وقح يقول بملء فيه من غير حياء ما يفعله المسلمون عند الكعبة هو من الوثنية، هزُلت ورب الكعبة.
5- بل كيف لو علم هذا الأحمق أنه لا يجوز في الإسلام الحلف بالكعبة، وإنما برب الكعبة، فجاء النهي من أن تجعل في التنديد الأصغر، ثم يتهمون المسلمين بالتنديد الأكبر بها ففي حديث قُتَيْلَةَ " فَأَمَرَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَحْلِفُوا أَنْ يَقُولُوا: وَرَبِّ الْكَعْبَةِ". رواه النسائي
بل وكان الصحابة ينكرون على من حلف بها كما جاء عن ابْن عُمَرَ أنه سَمِعَ رَجُلًا يَحْلِفُ: لَا وَالْكَعْبَةِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عُمَرَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ ". رواه أبو داود والترمذي.
فجوهر الإسلام وخلاصته الذي افترق به عن الوثنية هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، وامتثال أوامره، واتخاذه معبودا لا شريك له، فمن لم يفرق بينهما فلا فهم له صحيح، ولا علم بأدنى الأسس.
• فإذا قيل عرفنا أنه لا وثنية في الإسلام إذن فما الحكمة من جعل الكعبة جهة للصلاة ومكان للطواف والعبادة؟
فالجواب أن يقال إننا في هذه الدار مكلفون في فترة الاختبار والامتحان، مع تسليمنا بطاعة الحكيم سبحانه الذي لا يفعل إلا لحكمة ولا يشرع إلا ما هو حسن، فالأصل التسليم والمتابعة، فما عرفنا وجه الحكمة منه فالحمد لله، وما لم نعرفه لجهلنا أو قصور فهمنا فنكل الأمر إلى بارئه، ونحن مطمئنون بحسن تدبير وحكمة أفعال من ثبت وجوده، وصدق رسله، بالبراهين العقلية والنقلية، وعلمنا حكمته ورحمته بمجمل أفعاله وأصل شرعه، فما اشتبه علينا من أمر رددناه إلى المحكم من ذلك من غير حرج في صدورنا ولا وهم في عقلونا، فلا يلزم ملك الملوك أن يخبرنا بحكمة كل فعل، ووجه كل أمر، وإنما بمجمل ذلك وبعضه، فنرد ما اشتبه إليه.
ومع ذلك فقد دل الشرع إلى بعض الحكمة من ذلك، وتلمس أهل العلم بعض جوانبها وهي باختصار:
أن الله سبحانه جعل البيت الحرام مكانا يستضيف فيه عباده ومثابة لهم، ويتوجهون إليه، لمنافعهم الدينية والدنيوية، لإقامة ذكره، والتعاون فيما بينهم على الخير والمعروف، والتعارف، وإشعارهم بوحدتهم وجمع كلمتهم بتوحيد عبادتهم لله لا شريك له، وإيمانهم بخاتم الأنبياء لا نبي بعده، وتصديقهم بكتاب الله الذي لم يُحفظ غيره، وطوافهم ببيته وحده لا ببيت غيره، واتجاههم إليه في عباداتهم لا إلى غيره.
هذه خلاصة وجه الحكمة استطرادا وإلا فالمنشور ليس من أجلها وإنما لرد شبهة الوثنية.
• وقبل الختام ينبغي أن أنبه هنا أنه من المضحك جدا أن يلقي علينا بهذه الشبهة النصارى أو من دافع عنهم، وكما قيل: رمتني بدائها وانسلّتِ
فالنصرانية المحرفة قائمة على الوثنية، بل والشرك في الربوبية بأقانيمها الثلاثة، ووالدة الإله، وعبادة التصاوير والصلبان.
وأضحك من ذلك، الملحد عندما ينكر شيئا ما، فيقال له بأي مبدأ تنكر والإلحاد لا يؤمن بالقيم المطلقة للأخلاق، ولا بالإرادة الحرة للحيوان، وإنما نحن مجرد مادة مجبرة بقوانين الطبيعة، فإن كنت لا تعرف ذلك فأنت لا تعرف الإلحاد الذي تتبناه، ولا الإسلام الذي تنتقده، فلو أخفيت سوءتك لكان أولى لك وأولى.
• وختاما ينبغي أن يقال نصيحة للمسلمين أن بعض الجهلة يفعل عند الكعبة وبها بعض البدع التي هي من الوسائل إلى الوثنية جهلا منهم، وليس هو من أمر دينهم، وذلك مثل تبركهم بأحجار الكعبة وأستارها، وجدران الحرم وأعمدته، وهذه من البدع المحدثة، فالتبرك وكيفيته توقيفي، فلا يشرع منه إلا ما شرع الله، وبالطريقة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يجيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التبرك الحسي بالكعبة ولا بتربة الحرم، وإنما جاء التبرك المعنوي بكثرة الأجور فيها ونزول الرحمات للعابدين هناك، ولم يتعبد النبي صلى الله عليه وسلم لله بالتمسح بشيء هناك إلا بالحجر الأسود والركن اليماني عبادة لله لا للتبرك به، ونحن أمة الاقتداء لا أمة الابتداع كالنصارى وكما قال عمر ابن الخطاب "إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ، وَلَوْلَا أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ". متفق عليه.
- وأدهى من ذلك وأمر مظاهر الوثنية الحقيقية التي ليست من الإسلام في شيء، ولكن يفعلها بعض المنتسبين إلى الإسلام من غلاة الصوفية والرافضة، من تعظيم القبور والطواف لها، والذبح لها وجعل النذور إليها تقربا لمن فيها، ودعاؤها والاستغاثة بها وطلب المدد والعون منها، وجعلوها أندادا مع الله، وآلهة أخرى من دونه، فقالوا كلمة التوحيد بأفواههم، وخالفوها بأفعالهم واعتقادهم.
فهؤلاء فعلا هم من الوثنيين، وشوهوا الإسلام بانتسابهم إليه، ولكن لا ضير فهم لا يمثلون إلا أنفسهم، والإسلام بريء منهم ومن أفعالهم الوثنية، فلا يمثل الإسلام إلا الوحي الصحيح، وفعل السلف الصالح، ومن كان على طريقتهم، واهتدى بهداهم.
والله أعلم وأحكم والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق