الرب
والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله … أما بعد:
فهذا المنشور الرابع من سلسلة خلاصة المعنى للأسماء الحسنى (٤)
في اسم من أسامي الله الحسنى وهو :(الرب)(٣)
وهذا الاسم ثابت في الكتاب والسنة في مواضع كثيرة، وورد ذكره في القرآن أكثر من (900) مرة، وغالبا ما يأتي ذكره مضافا إلى الخلق عموما كقوله تعالى: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِين } [سورة الفاتحة:2]. أو خصوصا كقوله: {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُون } [سورة الزخرف:82].{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس } [سورة الناس:1].
وجاء ذكره في السنة معرفا بالإلف واللام في أكثر من موضع ومنها ما جاء في حديث ابن عباس عن رسول الله ﷺ أنه قال:"أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ رَاكِعًا أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ " رواه مسلم
• معنى الرب لغة:
المالك، والمدبر، والمتصرف.
والسيد المطاع.
والقائم على الشيء، والقيّم، والمربي، والمصلح والمنعم.
ولا يطلق غير مضاف إلا على الله، وبعض أهل الجاهلية أطلقوه معرفا على الملك وهذا باطل.
- قال ابن الأنباري: ( الرب: ينقسم على ثلاثة أقسام: يكون الرب: المالك؛ ويكون الرب: السيد المطاع، قال الله تعالى: {فيسقى ربه خمرا} أي سيده؛ ويكون الرب: المصلح، رب الشيء، أي أصلحه..) اهـ
- قال الزجاجي في اشتقاق أسماء الله:
"الربُّ: المصلح للشيء، يقال: (رببت الشيء أربه ربا وربابة): إذا أصلحته وقمت عليه، ورب الشيء، مالكه، فالله عز وجل مالك العباد ومصلحهم. ومصلح شؤونهم. ومصدر الرب: الربوبية، وكل من ملك شيئًا فهو ربه، يقال: (هذا رب الدار ورب الضيعة). ولا يقال: (الرب) معرفًا بالألف واللام مطلقًا إلا لله عز وجل لأنه مالك كل شيء".اهـ
- قال ابنُ الأثير في النهاية: "الرَّبُّ يُطْلَقُ في اللُّغةِ على المالكِ والسَّيِّدِ والمدَبِّرِ والمُرَبِّي والقيِّم والمُنْعِمِ. ولا يُطلقُ غيرَ مضافٍ إلا على اللهِ تعالى، وإذا أُطْلِقَ على غيرِهِ أُضيفَ، فيقال: رَبُّ كذا"اهـ
• فيتضح مما سبق أن معناه في حق الله له ثلاثة معاني:
1- المالك الذي له الخلق والأمر المتفرد بالملك والخلق والتدبير.
2- السيد المطاع الذي لا ند له في السؤدد.
3- المصلح القيم، مربي الخلق، بخلقه لهم، وإنعامه عليهم، وهدايتهم لمصالحهم.
وهذه التربية قسمان:
1- تربية عامة: بخلقه لهم والإنعام عليهم وهدايتهم لما فيه قوامهم وبقائهم، وهذه عامة للخلق أجمعين.
2- تربية خاصة: وهي لأوليائه من عباده، وأصفيائه من خلقه، بتربيتهم على الإيمان والهداية والدفاع عنهم.
- قال ابن جرير في تفسيره لسورة الفاتحة:
" فربنا جل ثناؤه: السيد الذي لا شبه له، ولا مثل في سؤدده، والمصلح أمر خلقه بما أسبغ عليهم من نعمه، والمالك الذي له الخلق والأمر". اهـ
- وقال ابن كثير في تفسيره عليها:
" والرب هو المالك المتصرف ويطلق في اللغة على السيد وعلى المتصرف للإصلاح وكل ذلك صحيح في حق الله، ولا يستعمل الرب لغير الله بل بالإضافة تقول: رب الدار، رب كذا، وأما الرب فلا يقال إلا لله عز وجل، وقد قيل إنه الاسم الأعظم". اهـ
- قال القرطبي في الكتاب الأسنى:
"فالله سبحانه رب الأرباب، ومعبود العباد، يملك الممالك والملوك، وجميع العباد، وهو خالق ذلك ورازقه، وكل رب سواه غير خالق ولا رازق، وكل مخلوق فمملك بعد أن لم يكن، ومنتزع ذلك من يده، وإنما يملك شيء دون شيء. وصفة الله مخالفة لهذا المعنى، فهذا الفرق بين صفات الخالق والمخلوقين.
فأما قول فرعون –لعنة الله- إذ قال: أَنَا رَبُّكُمُ الأَعْلَى، فإنه أراد أن يستبد بالربوبية العالية على قومه، ويكون رب الأرباب فينازع الله في ربوبيته وملكه الأعلى، فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الآخِرَةِ وَالأُولَى.
وقد قيل إن الرب مشتق من التربية فالله سبحانه مدبر لخلقه ومربيهم ومصلحهم وجابرهم والقائم بأمورهم، قيوم الدنيا والآخرة، كل شيء خلقه، وكل مذكور سواه عبده وهو ربه، لا يصلح إلا بتدبيره ولا يقوم إلا بأمره، ولا يربه سواه، ومنه قوله تعالى: وَرَبَائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُم مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُم بِهِنَّ، فسمى ولد الزوجة ربيبة لتربية الزوج لها.
فعلى أنه مدبر لخلقه ومربيهم ومصلحهم وجابرهم يكون صفة فعل، وعلى أن الرب المالك والسيد يكون صفة ذات" اهـ
- قال ابن القيم في الصواعق المرسلة:
"قوله {رَبِّ الْعَالَمِينَ} وربوبيته للعالم تتضمن تصرفه فيه وتدبيره له ونفاذ أمره كل وقت فيه وكونه معه كل ساعة في شأن يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويخفض ويرفع ويعطي ويمنع ويعز ويذل ويصرف الأمور بمشيئته وإرادته وإنكار ذلك إنكار لربوبيته وإلهيته وملكه". اهـ
- قال السعدي في تفسير الفاتحة:
"{رب العالمين} الرب، هو المربي جميع العالمين -وهم من سوى الله- بخلقه إياهم، وإعداده لهم الآلات، وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة، التي لو فقدوها، لم يمكن لهم البقاء. فما بهم من نعمة، فمنه تعالى.
وتربيته تعالى لخلقه نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: هي خلقه للمخلوقين، ورزقهم، وهدايتهم لما فيه مصالحهم، التي فيها بقاؤهم في الدنيا.
والخاصة: تربيته لأوليائه، فيربيهم بالإيمان، ويوفقهم له، ويكمله لهم، ويدفع عنهم الصوارف، والعوائق الحائلة بينهم وبينه، وحقيقتها: تربية التوفيق لكل خير، والعصمة عن كل شر. ولعل هذا [المعنى] هو السر في كون أكثر أدعية الأنبياء بلفظ الرب. فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته الخاصة.
فدل قوله {رب العالمين} على انفراده بالخلق والتدبير، والنعم، وكمال غناه، وتمام فقر العالمين إليه، بكل وجه واعتبار". اهـ
• الربوبية تستلزم الألوهية:
بمعنى أن من ثبت له الخلق وتدبير الكون وبيده النفع والضر، فلا يستحق العبادة إلا هو.
- قال ابن القيم في بدائع الفوائد:
"والرب هو السيد والمالك والمنعم والمربي والمصلح والله تعالى هو الرب بهذه الاعتبارات كلها فلا شيء أوجب في العقول والفطر من عبادة من هذا شأنه وحده لا شريك له"اهـ
- قال ابن كثير في تفسيره على هذه الآية:
{يا أيها الناس اعبدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم لعلكم تتقون (21) الذي جعل لكم الأرض فراشا والسماء بناء وأنزل من السماء ماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون (22)}
"شرع تبارك وتعالى في بيان وحدانية ألوهيته، بأنه تعالى هو المنعم على عبيده، بإخراجهم من العدم إلى الوجود وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة، بأن جعل لهم الأرض فراشا، أي: مهدا كالفراش مقررة موطأة مثبتة بالرواسي الشامخات، {والسماء بناء} وهو السقف، كما قال في الآية الأخرى: {وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون} [الأنبياء: 32] وأنزل لهم من السماء ماء -والمراد به السحاب هاهنا-في وقته عند احتياجهم إليه، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار ما هو مشاهد؛ رزقا لهم ولأنعامهم، كما قرر هذا في غير موضع من القرآن. ومن أشبه آية بهذه الآية قوله تعالى: {الله الذي جعل لكم الأرض قرارا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين} [غافر: 64] ومضمونه: أنه الخالق الرازق مالك الدار، وساكنيها، ورازقهم، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره؛ ولهذا قال: {فلا تجعلوا لله أندادا وأنتم تعلمون} وفي الصحيحين عن ابن مسعود، قال: قلت: يا رسول الله، أي الذنب أعظم؟ قال: "أن تجعل لله ندا، وهو خلقك" الحديث. وكذا حديث معاذ: "أتدري ما حق الله على عباده؟ أن يعبدوه لا يشركوا به شيئا" الحديث..."اهـ
• اسمي الرب والإله عند الاجتماع والافتراق:
فعند اجتماعهما فكل منهما له معناه الخاص به، وعند افتراقهما فكل اسم يدل على الآخر.
قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى:
"فإن المقصود هنا بيان حال العبد المحض لله الذي يعبده ويستعينه فيعمل له ويستعينه ويحقق قوله: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] توحيد الإلهية وتوحيد الربوبية؛ وإن كانت الإلهية تتضمن الربوبية.
والربوبية تستلزم الإلهية؛ فإن أحدهما إذا تضمن الآخر عند الانفراد لم يمنع أن يختص معناه عند الاقتران، كما في قوله: {قل أعوذ برب الناس} [الناس: 1] {ملك الناس} [الناس: 2] {إله الناس} [الناس: 3] وفي قوله: {الحمد لله رب العالمين} [الفاتحة: 2] فجمع بين الاسمين: اسم الإله واسم الرب.
فإن " الإله " هو المعبود الذي يستحق أن يعبد.
" والرب " هو الذي يرب عبده فيدبره.
ولهذا كانت العبادة متعلقة باسمه: الله، والسؤال متعلقا باسمه: الرب؛ فإن العبادة هي الغاية التي لها خلق الخلق.
والإلهية هي الغاية؛ والربوبية تتضمن خلق الخلق وإنشاءهم فهو متضمن ابتداء حالهم؛ والمصلي إذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة: 5] فبدأ بالمقصود الذي هو الغاية على الوسيلة التي هي البداية، فالعبادة غاية مقصودة؛ والاستعانة وسيلة إليها؛ تلك حكمة وهذا سبب...
فإذا سبق إلى قلب العبد قصد السؤال ناسب أن يسأله باسمه الرب.
وأن يسأله باسمه الله لتضمنه اسم الرب كان حسنا، وأما إذا سبق إلى قلبه قصد العبادة فاسم الله أولى بذلك.
إذا بدأ بالثناء ذكر اسم الله، وإذا قصد الدعاء دعا الرب، ..."اهـ
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب:
"فاعلم أن الربوبية والألوهية يجتمعان ويفترقان كما في قوله: (قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس) وكما يقال رب العالمين وإله المرسلين وعند الإفراد يجتمعان كما في قول القائل من ربك، مثاله الفقير والمسكين نوعان في قوله: إنما الصدقات للفقراء والمساكين ) ونوع واحد في قوله : (افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد إلى فقرائهم ) إذا ثبت هذا فقول الملكين للرجل في القبر : من ربك ؟ معناه من إلهك لأن الربوبيية التي أقر بها المشركون ما يمتحن أحد بها، وكذلك قوله : (الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) وقوله: (قل أغير الله أبغي ربا) وقوله : (إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا) فالربوبية في هذا هي الألوهية ليست قسيمة لها كما تكون قسيمة لها عند الاقتران فينبغي التفطن لهذه المسألة"اهـ
قلت في منظومة روضة الموحد:
و(الرب) فهو المصلح المربي
والـسيـــد والمــالـك فـلـبَّــي
والعــام فيـه شـامـل البـرايـــا
والخــاص للتـقـيِّ بـالرعــايـه
و(الرب) و (الإلٰـه) في افتـراقِ
كـلاهما بالمعنى فـي اتـفــاقِ
وبـاجـتـمـــاعٍ ربنــا المـــدبّـرُ
واللهُ فالمعبودُ عنّـي حــرّروا
• خاطرة:
فكون الله سبحانه وتعالى هو الرب ورب العالمين ورب السموات والأرض ورب الناس أجمعين الذي خلقهم ودبرهم وهداهم إلى مصالحهم، لا يليق به سبحانه وتعالى أن يترك عباده سدى، ولا يرسل إليهم رسلا منه يعرّفونهم عليه، ويبلغونهم رسالته {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ ( ١١٥ ) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ ( ١١٦ )} [سورة المؤمنون] {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ( ١٦ ) لَوْ أَرَدْنَا أَن نَّتَّخِذَ لَهْوًا لَّاتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّا إِن كُنَّا فَاعِلِينَ ( ١٧ )} [سورة الأنبياء] {أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى } [سورة القيامة:36].
ففي هذا الاسم أعظم الرد على الربوبيين الذين ينكرون النبوات.
• خاتمة:
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى:
" ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له والإنابة إليه. ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية وقد أخبر عنهم أنهم {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال: {وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} فأخبر أنهم مقرون بربوبيته وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم. وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى الله من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به في الباطن من الأحوال التي بها يتصرفون وهؤلاء من جنس الملوك وقد ذم الله عز وجل في القرآن هذا الصنف كثيرا فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون في الحقائق ويعملون عليها وهم لعمري في نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به والله سبحانه أعلم". اهـ
والحمد لله رب العالمين
::
تعليقات
إرسال تعليق