دليل التمانع
الأدلة العقلية النقلية على أصول الإسلام (٥)
(٢) أدلة توحيد الربوبية
عامة الديانات الوثنية موحدة في توحيد الربوبية، ولكنها مشركة في توحيد الألوهية، وذلك باتخاذ الآلهة -المعبودات- مع الله، إلا أن بعض الديانات قد انحرفت كثيرا في توحيد الربوبية، ومنها ديانة اليونان الشعبية التي تجاوزت الفطرة والعقل في شرك الربوبية، فجمعت بين الشركين، وكانت وصمة عار في تاريخ البشرية.
وبما إننا قد عرفنا أدلة وجوده النقلية العقلية، فلا بد أن نتعرف على أنه المتفرد بالملك والخلق والتدبير، بالدليل النقلي العقلي، ولكن ينبغي التنبيه هنا أن القرآن لم يحفل كثيرا بتقرير توحيد الربوبية، لأن عامة الديانات وخصوصا العرب ومن حولهم كانوا مقرين به في الجملة.
فمن أدلة تفرده سبحانه بالربوبية -بالملك والخلق والتدبير-:
دليل التمانع:
قال عنه ابن تيمية في درء التعارض: "هو برهان صحيح عقلي" اهـ
وعرفه ابن القيم في إعلام الموقعين بقوله: "وهو أنه يستحيل أن يكون للعالم فاعلان مستقلان بالفعل؛ فإن استقلالَ كل منهما ينفي استقلال الآخر، فاستقلالهما يمنع استقلالهما" اهـ
ولقد دل القرآن على هذا الدليل في قوله تعالى:
{مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون]
قال الطبري في تفسيره: "يقول تعالى ذكره: ما لله من ولد، ولا كان معه في القديم، ولا حين ابتدع الأشياء من تصلح عبادته، ولو كان معه في القديم أو عند خلقه الأشياء من تصلح عبادته (من إله إذا لذهب) يقول: إذن لاعتزل كل إله منهم (بما خلق) من شيء، فانفرد به، ولتغالبوا، فلعلا بعضهم على بعض، وغلب القوي منهم الضعيف؛ لأن القوي لا يرضى أن يعلوه ضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون إلها، فسبحان الله ما أبلغها من حجة وأوجزها، لمن عقل وتدبر" اهـ
وقال ابن كثير عليها: "أي: لو قدر تعدد الآلهة، لانفرد كل منهم بما يخلق، فما كان ينتظم الوجود. والمشاهد أن الوجود منتظم متسق، كل من العالم العلوي والسفلي مرتبط بعضه ببعض، في غاية الكمال، ﴿ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت﴾ [الملك: ٣] ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه، فيعلو بعضهم على بعض" اهـ
وفي بيان ذلك يقال:
إن في الآية برهانين على عدم تعدد الخالق وهما:
-عدم ذهاب كل إله بما خلق.
- وعدم علوّ بعضهم على بعض.
والنتيجة: أنه لا يوجد إلا خالق واحد هو الرب المعبود.
لأنه لو كان هناك خالقان لهما خلق وفعل، فإنّ أحدهما لا يرتضي شركة الآخر معه فيهما؛ لأن المشاركة نقص وحاجة، وتستلزم عجز كل منهما؛ لأنّ أحدهما إن لم يكن قادرًا إلا بإعانة الآخر له لزم عجزه حال الانفراد، وامتنع أن يكون قادرًا حال الاجتماع؛ لأنّه ليس بقادرٍ حتى يجعله الآخر قادرًا.
وإن كان كلٌّ منهما قادرًا حال انفراده لزم أن يمكن لأحدهما أن يفعل فعلًا لا يشاركه الآخر فيه، وحينئذٍ لا بدّ من أحد أمور ثلاثة: -
- أن يذهب كل إله بخلقه وسلطانه وينفرد به، ولا يرضى أن يُضاف خلقه وإنعامه إلى غيره.
- أن يعلو بعضهم على بعض ويطلب قهر الآخر؛ لأنّ القويّ لا يرضى أن يعلوه الضعيف، والضعيف لا يصلح أن يكون خالقًا.
- أن يكون كلهم تحت قهر خالقٍ واحدٍ يتصرف فيهم ولا يتصرفون فيه، ويدبرهم ولا يدبرونه، فيكون وحده هو الخالق الحقّ، وهُم العبيد المربوبون المقهورون.
وهذا الأخير هو الواقع، ولا يصح غيره.
وبصيغة أخرى نقول:
لو فُرِض أنّ هناك صانعان فأكثر، فأراد أحدهما تحريك جسم وأراد الآخر عدم حركته، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما، فهو مستحيل عقلًا في حال كون المراديْن متناقضيْن كالحركة والسكون في هذا المثال.
ويكون عجزاً في حال تضاد المراديْن.
-ويمتنع اجتماع مرادهما جميعٍا في كلا الحالتين، لاستلزامه الجمع بين الضديْن.
-وإن حصل مراد أحدهما دون الآخر كان الغالب هو واجب الوجود الخالق سبحانه، والآخر المغلوب عاجزًا مقهورا ممكناً.
إذن لا خالق ولا مدبر إلا الله رب العالمين.
• فإن قيل لعلهما يتفقان في المراد:
يقال حينئذ: هل الاختلاف بينهما ممتنع عليهما أو هو من الممكن؟
- فإن قيل ممتنع، كان ذلك عجز في قدرتهما.
- وإن قيل ممكن، فالإمكان في حكم الوقوع، فنرجع إلى التقسيم السابق.
قال ابن تيمية في درء التعارض: "هؤلاء النظار قالوا: إذا قدر ربان متماثلان فإنه يجوز اختلافهما، فيريد أحدهما أن يفعل ضد مراد الآخر، وحينئذ: إما أن يحصل مراد أحدهما، أو كلاهما، أو لا يحصل مراد واحد منهما.
والأقسام الثلاثة باطلة، فيلزم انتفاء الملزوم.
أما الأول: فلأنه لو وجد مرادهما للزم اجتماع الضدين، وأن يكون الشيء الواحد حياً ميتاً، متحركاً ساكناً، قادراً عاجزاً، إذا أراد أحدهما أحد الضدين وأراد الآخر الضد الآخر.
وأما الثاني: فلأنه إذا لم يحصل مراد واحد منهما، لزم عجز كل منهما، وذلك يناقض الربوبية.
وأيضاً فإذا كان المحل لا يخلو من أحدهما، لزم ارتفاع القسمين المتقابلين، كالحركة والسكون، والحياة والموت، فيما لا يخلو عن أحدهما.
وإن نفذ مراد أحدهما دون الآخر، كان النافذ مراده هو الرب القادر، والآخر عاجزاً ليس برب، فلا يكونان متماثلين" اهـ
والحمد لله رب العالمين.
تأصيل وردود
تعليقات
إرسال تعليق