القرآن وكلام الله بين أهل الحق والباطل
القرآن كلام الله غير مخلوق
كان أهل السنة من السلف والصحابة يثبتون صفة الكلام لله وأنه لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء بكلام يقوم به، إذا شاء تكلم وإذا شاء سكت، وهو يتكلم بحرف وصوت يُسمع ليس كأصوات خلقه، وأن نوع الكلام قديم وآحاده جديدة غير مخلوقة لا تزال تقع شيئا فشيئا بحسب حكمة الله تعالى.
وأن كلامه يسمع إما بواسطة كسماعنا للقرآن، وسماع الأنبياء وحيه عن طريق جبريل، وإما بغير واسطة كما سمعه موسى في الأرض وسمعه نبينا في السماء وكما سمعه الملائكة وكما سيسمعه أهل الجنة - جعلنا الله وإياكم منهم-
وأن القرآن المنزل جميعه كلام الله حروفه ومعانيه غير مخلوق ولا قديم أزلي بقدم الله تكلم به في الأزل بل هو من كلامه الذي أوحاه لنبيه ﷺ عندما شاء ذلك، منه بدأ لا من بعض مخلوقاته، وإليه يعود صفة ويرجع في آخر الزمان بعد رفعه من الأرض
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى:
"وكما لم يقل أحد من السلف إنه مخلوق فلم يقل أحد منهم إنه قديم لم يقل واحدا من القولين أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان ولا من بعدهم من «الأئمة الأربعة» ولا غيرهم… وأول من عرف أنه قال مخلوق: الجعد بن درهم وصاحبه الجهم بن صفوان وأول من عرف أنه قال هو قديم عبد الله بن سعيد بن كلاب " اهـ
وأما أفعال العباد كأصواتهم ومدادهم وورقهم فهي مخلوقة وأما الكلام المتلو والمكتوب فهو كلام الله غير مخلوق ولذا قالوا:
الكلام كلام الباريء والصوت صوت القاريء.
قال حافظ حكمي في أعلام السنة:
"فهو وإن خط بالبنان، وتلي باللسان، وحفظ بالجنان وسمع بالآذان، وأبصرته العينان، لا يخرجه ذلك عن كونه كلام الرحمن، فالأنامل والمداد والأقلام والأوراق مخلوقة، والمكتوب بها غير مخلوق، والألسن والأصوات مخلوقة، والمتلو بها على اختلافها غير مخلوق، والصدور مخلوقة والمحفوظ فيها غير مخلوق، والأسماع مخلوقة، والمسموع غير مخلوق" اهـ
وقال ابن تيمية في الواسطية: "بل إذا قرأه الناس أو كتبوه في المصاحف لم يخرج بذلك أن يكون كلام الله حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدءا لا إلى من قاله مبلغا مؤديا" اهـ
والأدلة على قول السلف كثيرة متوافرة في القرآن والسنة ومن ذلك:
{ فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى ( ١١ ) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ } [سورة طه]
{ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } [سورة البقرة]
{ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( ٢٧ ) } [سورة لقمان]
وروي في السنن عن النبي أنه قال: قال : " الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو مما عفا عنه ".
وفي الحديث الذي رواه مسلم: "أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك : فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة ؛ لن تقرأ بحرف منهما إلا أعطيته"
وروى البحاري: : " يقول الله عز وجل يوم القيامة : يا آدم. يقول : لبيك ربنا وسعديك. فينادى بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار" الحديث.
{ وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ} [سورة التوبة]
{ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ( ٥١ ) } [سورة الشورى]
{ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ( ١٠٢ ) } [سورة النحل]
{ مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ( ٢ ) } [سورة الأنبياء]
محدث أي جديد إنزاله.
ثم جاءت الجهمية والمعتزلة فأحدثوا القول بأن كلام الله مخلوق منفصل عنه، خلقه في غيره، ومن ذلك القرآن المنزل فهو عندهم مخلوق من خلق الله، خلقه ثم أنزله على محمد ﷺ.
والفرق بين الجهمية والمعتزلة أن الجهمية تقول إن الله ليس بمتكلم ولا صفة كلام له، والمعتزلة يقولون هو متكلم حقيقة ولكن بلا صفة كلام له، وهذا تناقض، ومذهبهم ومذهب الجهمية في المعنى سواء وكلاهما ينفون صفة الكلام ويقولون القرآن مخلوق.
ثم جاءت الكلابية من بعدهم وأرادت الجمع بين الحق والباطل فأحدثت قولا مبتدعا جديدا في كلام الله وصفاته
فقالت إن كلام الله قديم أزلي لا يتعلق بمشيئته، فلا يتكلم إذا شاء متى شاء، وأنه كلام نفسي معنوي بلا حرف ولا صوت، وإنما يقوم بذات الله، لا يُسمع منه كلام، وإسماع الملائكة أو غيرهم لكلامه إنما هو خلق إدراك لهم فقط، وأنه معنى واحد في الأزل هو خمسة صفات، وأن القرآن المنزل هو حكاية عن كلام الله النفسي المعنوي.
وهو نفس قول الأشاعرة إلا أن الأشاعرة يقولون هو عبارة عن كلام الله النفسي، وليس حكاية لأن الحكاية تكون مثل المحكي، والمناسب قول عبارة عن كلام الله لأن الكلام ليس من جنس العبارة.
وقالوا هو معنى واحد في الأزل وهو صفة واحدة.
وعليه فالقرآن عندهم لم يتكلم الله به، لأن كلام الله نفسي، بل هو كلام جبريل أو محمد أو غيره عبر به عن المعنى القائم بذات الله.
وهذه الحكاية أو العبارة مخلوقة، وبالتالي فالقرآن العربي المنزل مخلوق.
ولكن أئمتهم المتقدمين كابن كلاب والأشعري كانوا يطلقون بأن القرآن كلام الله
ولكن يقولون أن هذا القرآن العربي المنزل مخلوق، خلقه الله في الهواء أو في جسم ما، وأتباعهم يقولون هو كلام جبريل أو محمد أفهمهم الله معنى كلامه.
والذي استقر عليه مذهب الأشاعرة أن القرآن العربي مخلوق، وليس هو كلام الله.
-وبهذا يتبين خلافهم مع السلف في القرآن، في أن المعنى كلام الله النفسي، وأما القرآن العربي المنزل فليس كلام الله وإنما هو عبارة عنه أو حكاية.
فوافقوا المعتزلة في القول بأن القرآن الذي بين أيدينا مخلوق، ولكن المعتزلة يقولون هو كلام الله وهو مخلوق، وهؤلاء يقولون هو مخلوق وليس من كلام الله، ولكن يسمى كلام الله مجازا، فهم أشنع قولا من المعتزلة من هذا الوجه.
ولكنهم أحسن حالا من المعتزلة في إثبات صفة الكلام لله، وإن لم يثبتوه على الوجه الشرعي المقبول، بل قالوا هو نفسي.
قال ابن القيم في النونية عنهم:
زعموا القرآن عبارة وحكاية
قلنـا كـما زعمـوه قرآنــانِ
هذا الذي نتلوه مخلوق كما
قال الوليـد وبعده الفئتـانِ
والآخر المعنى القديم فقائم
بالنفس لم يسمع من الديانِ
وبدعتهم هذه جزء من مذهبهم في الصفات:
فالجهمية والمعتزلة ينفون جميع الصفات، مخالفين بذلك مذهب أهل الحق من السلف والصحابة في إثباتها من غير تمثيل ولا تكييف ومن غير تعطيل ولا تحريف.
ثم جاء الكلابية وأتباعهم الأشاعرة، فحاولوا الجمع بين الحق والباطل فأثبتوا الصفات المعنوية والذاتية كالعلم والكلام ونحوه، ونفوا ما يتعلق بمشيئته مما يقوم بذاته من الصفات الاختيارية الفعلية كالغضب والمحبة والنزول ونحوه
قال ابن تيمية:
"فإن السلف والأئمة كانوا يثبتون لله تعالى ما يقوم به من الصفات والأفعال المتعلقة بمشيئته وقدرته. والجهمية تنكر هذا وهذا فوافق ابن كلاب السلف على القول بقيام الصفات القديمة وأنكر أن يقوم به شيء يتعلق بمشيئته وقدرته. وجاء أبو الحسن الأشعري بعده…وسلك في الصفات طريقة ابن كلاب" [مجموع الفتاوى]
والحمد لله رب العالمين.
تعليقات
إرسال تعليق